نسير فى الحياة عبر رقعة كبيرة مقسمة بالتساوى إلى مربعات بعضها ناصع البياض، وبعضها قاتم السواد، وعليها يقف البشر وفقا لقلوبهم، من منحه الله قلبا أبيض وسيرة عطرة وضعه التاريخ فى موضعه على الرقعة البيضاء، ومن تملك السواد من قلبه كانت الرقعة السوداء مصيره، وبين كل هذا نسوة أثرن فى الحياة خيرا وشرا، ووقفن داخل الرقعتين أو تنقلن بينهما، ومن خلال هذه السلسة نحاول النظر إلى سيرتهن نظرة أخرى دون الحكم على واحدة منهن أو التأثر بإيمانها أو كفرها، فقط تناول سيرتها كأنثى أثرت فى الحياة ولكم وحدكم الحكم.
اصطفى الله عز وجل رسله من بين العالمين واصطفى لهم الصحبة، اختارهم وأهلهم للنبوة منذ الصغر، وقبل أن يحملهم بالرسالة اختار لهم من البشر السند والدعم مثلما اختارهم بعناية فائقة فكان لكل نبى أخ أو صديق أو زوج أو مجموعة تابعين وصحابة يحملون من صفات الأنبياء كثيرا، فهم لا يقلون عنهم إيمانا وصدقا وصفاء وزهدا وقوة وعفة ورحمة وعدلا ورضا وغيرها من الصفات التى زرعها الله فى قلوب أنبيائه ورفقائهم، وذكر الله من هؤلاء الصحبة كثيرين فى القرآن الكريم، ولعل النموذج الأجمل والأقوى «إن سمحتم لى بالحكم» من بين هؤلاء هى السيدة خديجة زوجة النبى محمد عليه، أفضل الصلاة والسلام، ولعل ما يميز خديجة عن غيرها أن سيدنا محمد كان آخر الأنبياء وبعث للناس جميعا، بينما كان الأنبياء قبله يرسلون إلى قومهم، وبالتالى مهمتهم أسهل، وثانيا أن المولى اختار لكل نبى رجل أو مجموعة من الرجال، فمثلا كان لسيدنا موسى أخوه هارون، واختار لإبراهيم ولده إسماعيل، وكان لعيسى مجموعة الحوارين، بينما اختار لمحمد سيدة، لم تقل قوة عن أى رجل منهم، فكانت أول من آمن بالإسلام من بين البشر، وكانت القوة والسند والدعم لمحمد ورسالته، ويمكن القول إن فضل السيدة خديجة على هذا الدين أكبر بكثير مما يقال أو يسرد فى سيرتها.
إن أردنا البحث عن نموذج للقوة عبر العصور فستكون خديجة هى النموذج الأمثل التى تجسدت فيها كل معالم القوة وكل أشكالها، والقوة هنا تجسدت فى كل مراحل حياتها ومواقفها، فكانت قوية فى السلم وفى الحرب، فى التجارة والحب، أنثى وزوجة وأم قوية، وبالرغم من كل هذه القوة فقد ظلمها التاريخ كثيرا بسبب هذه القوة نفسها، ولأنها كانت سيدة ناجحة وغنية ولم تتعرض لمأساة أو ظلم، فكانت أقل زوجات الرسول فى التاريخ رغم كل ما كتب عنها، إلا أن سيرتها كسيدة لما يتم تناولها وهذا ما سنفعله هنا، فلن نتحدث نسبها ومواقفها مع الرسول ولا كونها أول من آمن من بين رجال ونساء العالمين ولا على فضلها، سنجردها من كل هذا ،ونتحدث عن الأنثى التى أحبت بصدق، والمرأة القوية التى أدارت شؤونها التجارية والزوجة التى ساندت ودعمت وكانت خير معين لزوجها والأم التى أنشأت أبناءها خير تنشئة، وكيف جسدت هذه السيدة نموذجا فى القوة مع كل من هذه المراحل وفى كل مكان منهم، فلو قلت نموذجا فى التاريخ لسيدة الأعمال الناجحة فستكون خديجة، ولو سألت عن نموذج للمحبة فستكون الإجابة خديجة، ولو بحثت عن نموذج للزوجة الصالحة والأم المثالية وسيدة الخير فى المجتمع فسيكون الاسم الأول هو خديجة.
كانت خديجة تدير تجارة والدها التى تساوى تجارة كل سادة قريش مجتمعين، وذلك بعد وفاته والدها، ولأنها كانت تعلم أنها لن تستطيع التنقل مع بضاعتها فى القوافل التجارية والطرقات الصعبة بين الشام واليمن، فكانت تختار من بين رجال قريش أكثرهم صدقا وأمانة ذاك الذى تستطيع أن تسلمه تجارتها بمنتهى الثقة، ولأنها كانت قوية وذكية وتفهم فى البشر جيدا، كانت تختار دائما الاختيارات الصحيحة، وكانت تجارتها دائمة الربح، وذات يوم سمعت عن النبى محمد وحسن خلقه وصدقه وأمانته، فاختارته ليكون المسؤول عن مالها، وأرسلت له ليرافق تجارتها وعرضت عليه ضعف ما تعطى لأى رجل من قريش فوافق محمد وازدهرت تجارتها وربحث الضعف تقريبا، وكان التحول فى حياتها عندما وقعت فى غرامه، وهى سيدة عمرها أربعون عاما، بينما يبلغ هو من العمر خمسا وعشرين عاما، وهنا لم تخجل من عمرها والأهم أنها لم تخجل من التقدم له وعرض نفسها عليه للزواج منه، وكان هذا هوالتابوت الثانى الذى حطمته خديجة فى عصرها الجاهلى، فأولا هى سيدة أعمال تدير تجارتها وسط الرجال، وثانيا هى سيدة تتقدم لخطبة رجل، بعد أن كانت متزوجة من اثنين قبله لم يهبها الله منهما ذرية وقد ماتا، وبالطبع سيدة فى مثل هذه الظروف كانت مطمعا لكثيرين من الرجال فهى تمتلك اكبر تجارة وأرملة ولم تنجب عوضا عن جمالها وطهرها، وكلها عوامل تؤدى إلى أن بابها لم يهدأ من الطرق عليه لطلب الزواج، لكنها لم تفعل، والشواهد تقول إنها لم ترفض الزواج خوفا أو زهدا، إنما رفضت أن تسلم حياتها لرجل لا تحبه ولا يعطيها قدرها الذى تعلمه جيدا، وبمجرد أن عثرت على هذا الرجل وهو محمد أقدمت بنفسها على الخطوة.
ولأنها كانت أنثى لم تستطع أن تخبئ ما فى قلبها فأفصحت عنها لصديقتها الأقرب إلى قلبها «نفيسة»، واعترفت بحبها لمحمد فقالت نفيسة لخديجة «تأذنين وأنا أدبر الأمر»، فوافقت خديجة وأرسلت نفيسة إلى محمد تعرض عليه الزواج من خديجة، وقبل محمد الزواج بخديجة، وطلب من أعمامه التقدم لخطبتها رسميا، وتمت الزيجة، وعاشت معه قصة حب عرفها بنو قريش، وكانت زوجة صالحة ومثالية وأحبها محمد حبا كثيرا، وكان يعتبر حبها رزقا، فقال فى أكثر من موقف عنها «رزقت حبها»، وسلمت له كل ما تملك بنفس راضية، دون خوف وهذا أيضا أمر قد تخشى منه نساء كثيرات إلا أن ثقتها بنفسها وبزوجها «حتى قبل النبوة»، وحبها وإيمانها به كانت أكبر من الأموال والتجارة.
مظهر آخر من مظاهر قوتها تجسد ليلة نزول الوحى على محمد، وعاد إليها مرتجفا من الخوف، فهدأت من خوفه بعد أن كان النبى يشعر بتوتر شديد، خاف من ألا يصدقه أحد أو يعتبروه مجنونا أومدعيا، فلم يجد أقرب من خديجة ليروى لها ما شاهده وتوجه إليها مباشرة وحكى لها، فما كانت إلا مؤمنة بكل ما قاله، سمعت منه وصدقته وآمنت به وقطعت على نفسها عهدا أن تقف بجانبه، وأن تظل داعما له ولرسالته طوال حياتها وهو العهد الذى نفذته رغم مشقته النفسية والمادية، وهنا لنا أن نتخيل موقفا كهذا أن لم تتصرف فيه خديجة على هذا النحو من الثقة والثبات والقوة والإيمان، فكيف سيكون حال النبى، كيف سيكمل رسالته ويطلب من البشر تصديقه والإيمان برسالته إن لم تفعل أقرب الناس إليه.
لم تتوقف قوة خديجة فبنفس القوة عادت لتمارس التجارة حتى لا ينشغل محمد بغير الرسالة، كما أعطت أولوية لبيتها وأبنائها بعد أن رزقها الله من محمد ستة أولاد وهم «عبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة الزهراء والقاسم»، وقررت أن تكون هى وتجارتها خادمة لمحمد وأولادة والدين الذى يدعو إليه، ولم تتوقف روعة خديجة عند هذا الحد، فقدمت نموذجا آخر فى الحياة الاجتماعية بعد أن قررت إنفاق ثروتها على الفقراء والمحتاجين، فكانت تتبرع بأموالها لكل محتاج، وكانت تبحث عن المرضى والأيتام لتنفق عليهم وتتكفل بزواج الفتيات ودفع مهورهن، فكان لها دور كبير فى الحياة الاجتماعية ورعاية المحتاجين، فحققت من خلال ذكائها الاجتماعى وسلوكها الراقى وقلبها الطيب الكريم وحبها الكبير لزوجها نجاحا كبيرا جدا فى كل أمور الحياة، خاصة فيما يتعلق بالنبوة، وقدمت نموذجا للمرأة التى نحتاجها فى كل عصر حتى ينصلح الحال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة