فى السادس من أغسطس من كل عام يجتمع الناس فى لندن مرددين: "لا تلقوا قنبلة ثالثة"، تزامنا مع ذكرى أبشع جريمة فى تاريخ البشرية، حين قرر الرئيس الأمريكى "هارى ترومان" بالاتفاق مع الحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية، ضرب مدينة هيروشيما اليابانية بقنبلة ذرية، حصدت أرواح 140 ألف شخص، قبل أن تتبعها قنبلة ثانية على مدينة ناجازاكى لتحصد هى الأخرى 80 ألفا آخرين.
كثيرة هى الكتابات التى تعرضت لأفظع عمل إجرامى فى تاريخ الإنسانية فى قالبه السياسى والتاريخى، وإن اتفقت على غياب مبررات منطقية لإقدام الولايات المتحدة على هذا الفعل المشئوم، لكن المخرج ناصر عبد المنعم والكاتب عيسى جمال الدين سارا فى طر يق غير، وتناولا من خلال العرض المسرحى "الساعة الأخيرة" تشريحًا نفسيًا للطيار الأمريكى صاحب أول هجوم ذرى فى التاريخ شهدته مدينة هيروشيما اليابانية، من خلال حوار تخيلى بين الرجل ونفسه قبل أن يفارق الدنيا بساعة واحدة، اختلطت فيه مشاعر البطولة والاستقواء، والندم والجنون، تاركا تمثالا له ربما رآه القادة الأمريكيون مصدر فخر وانتصار بينما نراه نحن مصدر خزى وعار.
الكاتب الإنجليزى "دافيد انجليش" كتب مقالًا بعنوان "فاتورة حساب ملاحى طائرة الموت" تعقب فيه طاقم الطيارين وعددهم 12، تولوا مهمة قذف هيروشيما بالقنبلة الذرية، وجاءت نهايتهم مأساوية فمنهم من فقد عقله وآخر أودع فى مستشفى الأمراض العقلية، وثالث أصيب بحالة هيستيرية، ورابعهم ظل 3 سنوات يصرخ أثناء نومه "السحابة .. السحابة"، ولم يختلف حال الباقين كثيرا عن هؤلاء، ربما اتخذ عيسى جمال الدين - الحائز على جائزة ساويرس للتأليف عن مسرحية "الساعة الأخيرة فى حياة الكولونيل" – من هذا المقال مصدرا لرسم شخصيته الرئيسة "توماس" قائد العملية.
الساعة الأخيرة تتعرض للتاريخ الأسود للولايات المتحدة الأمريكية ويلقى بظلاله على واقع مرير نشهده فى تاريخنا المعاصر من حروب لا شك أن لأمريكا اليد العليا فيه.. ـ"توماس " يحتفل بعيد ميلاده الأخير وحيدًا فى بيته يتحدث مع تمثاله آخر من تبقى له إذ تخلت عنه زوجته وابنه، وأصبحت نظرات الاستهجان تلاحقه فى كل مكان، يراها فى أعين الناس بعد أن كانت صوره تملأ مجلات هوليود على أنه أحد الأبطال المخلدين، لكنه الآن أصبح وحيدا ينتظر الموت، يردد: "فى أقل من 6 دقائق لم تعد هناك مدينة تسمى هيروشيما.. رأيت وجوههم وهى تحترق وأجسامهم تتبخر بفعل الحرارة.. ليتك لم تفعلها يا توماس" لكن الندم لم يعد يجدِ، شعور بوخز الضمير يخالطه شعور واهم ببطولة زائفة، فلولاه ما كانت أمريكا تأمر فيطيع الجميع، تلك البلاد التى بنيت امبراطوريتها على جثث الشعوب ، والآن يبسطون أذرعهم للسلام بأياد ملطخة بالدماء، ليعلنها "توماس" فى النهاية: "نحن من نصنع الكراهية.. أنتم يا من تعيشون على الجانب الآخر من العالم، يا من تصدرون الأوامر دون أن تعبئوا بأرواح البشر، يا من تخليتم عن إنسانيتكم، سنصبح جميعا فى طى النسيان، ستعرفون أننا ارتكبنا جرما فى حق البشر، تخلوا عن شعاراتكم الجوفاء ، واعلموا أن ساعة الحساب قادمة".
فى كواليس مسرحية "الساعة الأخيرة" التقينا المخرج ناصر عبد المنعم وأجرينا معه هذا الحوار...
لماذا تحمست لإخراج مسرحية "الساعة الأخيرة" ؟
كنت فى لجنة تحكيم مسابقة ساويرس، وأجمعنا على "الساعة الأخيرة" بين 125 مسرحية كأفضل نص لعام 2017، وعجبنى جدا، وتساءلت لماذا لا نربط بين المسابقات المسرحية والإنتاج المسرحى، خصوصا أننا دائما نتحدث على ضعف النصوص، إلا أن المسابقات تفرز نصوصا جيدة، بالإضافة إلى أن المؤلف عيسى جمال الدين كاتب واعد وفى تقديرى له مستقبل كبير فى الكتابة، بجانب الدور الذى أحاول أن ألعبه فى الفترة الأخيرة بتقديم كتّاب جدد. لضخ دماء جديدة فى الحركة المسرحية.
هل هناك آليات اتخذت لتقديم أعمال شبابية على مسارح الدولة؟
حتى الآن لا توجد آليات، لذلك أنا أدعو لعمل برتوكلات بين الجوائز المسرحية والبيت الفنى للمسرح.
ما مدى تطابق أحداث الساعة الأخيرة مع الوقائع التاريخية لضرب مدينة هيروشيما ؟
الحقيقة الجانب الإنسانى فى نص الساعة الأخيرة جذبنى أكثر من الجانب السياسى والتاريخى، لأن الحالات الإنسانية تعبر الزمان والمكان، فالطيار الأمريكى لم يعرف ما تسببه القنبلة الذرية من دمار ، لذلك شعر بتأنيب الضمير بعد العملية.
لكن من خلال قراءاتى عن الواقعة، كان فريق الطيارين يعرف ما تخلفه القنابل الذرية من أضرار .. ما تعليقك؟
كانوا يعرفون أن تلك القنبلة غير مسبوقة، وتمت تجربتها فى الصحراء ، لكن على أرض الواقع لم يكن يتخيلون أن يموت أكثر من 140 ألف شخص، شىء فوق الخيال، بدليل أن أمريكا اعتذرت بعد العملية لأن الحادث أصبح وصمة عار على جبين كل أمريكى.
خرجت من المسرحية متعاطفا مع الطيار الأمريكى وهو مجرم، هل تلقى باللوم على الدولة الأمريكية وليس الأفراد؟
الصراع فى المسرحية كلاسيكى بين العاطفة والواجب، فالطيار الأمريكى أقنعوه أن هذا دوره، ولكن فى النهاية هو مجرم، فحدثت عنده ازدواجية وانفصام بين واجبه وعواطفه، وبطلنا عنده هذا الانفصام لكن لا يثير التعاطف ، لأنه فى نهاية المسرحية قال "ولو كنت أعر ف ما أحمله لألقيت القنبلة".
تواجهنا صعوبة فى تحويل الأحداث التاريخية المجردة لعمل فنى، هل لديك تصور لتحويل المادة التاريخية لأعمال للمسرح والسينما ؟
استلهام التاريخ شىء مهم جدا، على سبيل المثال قنبلة هيروشما الذرية غيرت العالم، لأن الغلبة وقتها لليابان على أمريكا، لكن بعد الحادث وجد اليابانيون أنفسهم أمام قوة عظمى لا يمكن مواجهتها، لذلك استسلموا بعد إلقاء قنبلة ثانية على مدينة ناجازاكى، بعدها نشأت الأمبراطورية الأمريكية الطاغية، وبالتالى استلهام المناطق المؤثرة فى التاريخ البشرى شىء مهم جدا، لكن هناك فرق بين قراءة التاريخ والعمل الفنى ، إذ أن الأخير غير ملزم بنقل الوقائع حرفيًا ، لأن خيال الكاتب يتدخل، ويضيف أشياء تخدم رؤاه .
لذا يمكننا القول أن مسرحية الساعة الأخيرة غير مطابقة مع الأحداث التاريخية لهيروشيما؟
نعم ليست متطابقة،فمثلا شخصية الفتاة اليابانية الضريرة التى تخيلت أن الطيار الأمريكى ملاكا جاء لإشفاء المرضى، من خيال المؤلف، والمقصود بهذا المشهد وضع الطيار الأمريكى فى مواجهة مع الحضارة اليابانية.
أخيرا.. ما رسالتك من هذا العرض المسرحى؟
رسالتى أن الحرب شىء قاس ومرعب، وأحلم بعالم خال من الحروب، لذا كتبت فى "بامفلت" المسرحية، "هل يمكن أن نرى طفلا فى يوم ما يسأل أمه ماذا تعنى كلمة حرب؟"، فرؤيتى كشف فظائع الحروب بحثا عن عالم أفضل.
الفنان شريف صبحى بطل المسرحية كشف لنا كوليس التحضير لشخصية الطيار الأمريكى فى الحوار التالى...
كيف رسمت شخصية الطيار الأمريكى بالنظر إلى قلة المصادر المتوفرة عن حياته؟
لجأت لمصدر أو اثنين ولكن اهتممت أكثر بالدراما على الورق، الأستاذ ناصر عبد المنعم أعطانى "مفتاح الشخصية" وهذا ذكاء منه، قال لى "عايزين نكسر المتوقع.. 100 ممثل حيأدوا بطريقة واحدة حيبقى الفارق درجة معايشتهم وإجادتهم بين ممثل وآخر.. وابتديت أشتغل على ده.. والفترة اللى عملنا فيها البروفات قليلة بالنسبة لعمل ضخم مثل الساعة الأخيرة، يحتاج كمية تمثيل غير عادية"، إذ أجرينا بروفات لمدة شهر تقريبا، بالإضافة إلى بحثى الدائم وراء الشخصية.
هل وجدت لقاءات مصورة أو صورا أرشيفية للشخصية ساعدتك على رسمها؟
شوفته طبعا من خلال الصور والفيديوهات، لكن للأمانة "حطيت كل ده على جنب"، لأننا لم نره فى حالته التى لا يرثى لها وصراعه مع نفسه بين البطولة ووخز الضمير، لأنه من خلال الصور والفيديوهات يبدو منمقًا، ولا يبدى أى ندم على الحادث على عكس الدراما المكتوبة فى المسرحية، فلم يفيدنى مسرحيًا، فلجأت للموازنة بين الشخصية الحقيقة والدراما وخيالى.
أداؤك جعلنى أتعاطف مع مجرم.. ما تعليقك ؟
هذه لغة المصريين الطيبين، على عكس الشعب الأوروبى، الذى يعتبره مجرم حرب، بالنسبة لى هو مجرم، لكن كممثل ألعب على الجانب الإنسانى لهذا الشخص، وتذكر آخر جملة فى المسرحية إذ قال إنه على استعداد للقيام بهذه المهمة مرة أخرى لو عرضوا عليه ذلك. فالسقطة التراجيدية له من وجهة نظرى حبه للبطولة.
جسدت مراحل مختلفة من حياة الطيار الأمريكى، أى مرحلة أصعب ؟
لم تكن تلك المراحل صعبة، لكن الشخصية أثرت على حياتى الخاصة كشريف، أعيش مع ابنى وزوجتى فى البيت وفى نفس الوقت منفصل عنهم، كنت عصبيا وأكلم نفسى كثيرا . لأن "الشخصية لبسانى"، فبعيدا عن المجهود العصبى والبدنى "بخرج كل يوم من العرض تعبان نفسيا.. أنا بعانى بجد".
ماذا عن ردود الأفعال عن العرض؟
ردود الأفعال طيبة، "لكن الناس خايفة تصقف وهى بتتفرج عشان متفصلناش.. بسبب الحالة اللى عملينها على المسرح".
حدثنى عن أصعب المشاهد فى المسرحية ؟
المشهد الذى يجمعنى بالفتاة اليابانية، أعتبره مشهد قاتل، لأنه قلب الموضوع.
ما هى رسالتك من مسرحية الساعة الأخيرة؟
نحن ضد الحروب ومع السلام، ضد أن تباد المجتمعات بسبب السياسات والأهواء، وأن ما حدث فى هيروشيما تكرر فى العراق وسوريا بنفس الخط الدرامى. فأمريكا ما زالت تحمل نفس الفكر والتخطيط.
شاركت فى فيلم مرجان مع عادل إمام وأحمد مكى، وقدمت شخصية تحدث عنها الجميع، وأصبح مكى بطلا وأنت تظهر على استحياء.. ما تعليقك؟
مكى أستاذ وممثل رائع، لكن أنا لا أجيد تسويق نفسى، فعلاقتى بأى عمل تتلخص فى تواجدى فيه، مع انتهائه أكون فى بيتى، ماليش فى العلاقات والسهرات والمجاملات.
هل تأثرت بصلة القرابة بينك والأستاذ محمد صبحى؟
لجأت للإخراج عشان أمثل، وكان همى ألا يقارننى أحد بأخى محمد صبحى، فحاولت أن أحفر فى الصخر ، وكانت أول مسرحية من إخراجى "أحدب نوتردام" وفازت بأفضل عرض على مستوى العالم فى المهرجان التجريبى، وبعدها صنفت مخرجًا، وهذا أثر على تواجدى كممثل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة