فى كتاب "النبش فى الذاكرة.. شبه سيرة ذاتية" للروائى والناقد مصطفى يضعنا العنوان - العتبة الأولى للنص - أمام آفاق رحبة من التوقعات والتساؤلات أهمها: ماذا ينتقى لنا مصطفى بيومى من الذاكرة التى تخضع بطبيعتها لعوامل الحذف والاختصار والنسيان ويقدمه لنا فى شبه سيرته الذاتيه؟ وكيف يقدم لنا شبه السيرة الذاتية هذه؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تأتى من الكتاب، فمصطفى بيومى لا يقدم سيرة ذاتية بالمعنى المألوف، تبدأ من مرحلة الطفولة ثم الشباب ثم الكهولة، اعتمادًا على الترتيب الزمنى الصاعد، بل يتوسل بذاته التى تنزوى وتفسح الطريق ليقدم ذوات أخرى يتعاطى ويشتبك مع منجزاتهم ويضعهم تحت منظاره الخاص، ومراياه الناقدة النافذة.
الكاتب لا يستغرق فى ذاته "البيومية" بقدر ما ينشغل بتقديم شخوصه، التى تبلغ تسعين، حسب الترتيب الألفبائى، ويقدم لنا صورة بانورامية نابضة بالفن والكتابة والسياسة والمسرح والرواية، لا تتكئ أيضًا على تقديمه لهم بذواتهم أنفسهم من مولد وحياة، بقدر ما تتعلق بمنجزاتهم وأعمالهم، وبصماتهم فى الحياة ويضيئها، حسب فلسفته الخاصة.
يمزج مصطفى بيومى فى أحبته التسعين - كما يسميهم - بين القدامى والمحدثين، فمن القدامى الشريف الرضي - شاعر عباسى - يراه بيومى: "يصل إلى ذروة التألق والتوهج ومعانقة الجوهر الأصيل للشعر فى قصائده القصيرة، التى تجسد فلسفته ورؤيته وطبيعة المشاعر الشجنية التى تسكنه ولا أظن أن شاعرًا غيره اقترب من أزمة الإنسان مع الزمن وتحولاته على النحو، الذى يتجلى فى قوله: وتلفتت عينى فمنذ خفيت.. عنها الطلول.. تلفت القلب".
أما يوسف إدريس، حسب بيومى، فلا يملك شيئًا من قدرة نجيب محفوظ على تنظيم وقته وعمره، فهو يندفع كالصاروخ بلا ضوابط ويعشق الفوضى والإسراف الانفعالى، ويبحث بلا كلل أو ملل عن شىء غامض يعذبه ولا يعرفه، أظنه واحدًا من أبرز ضحايا هزيمة يونيو 1967 وأقول، إنه من عظماء المعبرين عن تأثيرها الأسود فى مجموعته القصصية بيت من لحم، لكننى أقول أيضًا: إن سنواته العشرين الأخيرة زهيدة المحصول".
وكما يتحرك مصطفى بيومى على رقعة القدم والحداثة يتجاوز أيضًا رقعة المحلية ويقدم لنا - من خلال ذاته وتجاربه - نماذج عالمية مثل إميل زولا وبلزاك وشكسبير ودوستوفيسكى.. ولا يقتصر على مجال بعينه فهو يتسع لشخصيات للفن والسياسة والأدب والمسرح والدين.
وكان طبيعيًا أن تأتى اللغة متسمة بالتكثيف والإيجاز، أولا لأن الكتابة هنا من الذاكرة التى قد لا تسعف بتذكر بعض الأحداث أو إسقاط ما يراه الكاتب غير مهم، وثانيًا لأن الكتابة عن كل شخصية من الشخصيات بإسهاب تتطلب كتابًا منفردًا أو قل كتبًا، والكاتب هنا يقدم ما يشبه سيرته الذاتية مع هذه الأعمال وأربابها.. إجمالاً نقول: إن مؤلَّف مصطفى بيومى يكشف عن كاتب موسوعى متمرس، وناقد حاذق وقبل هذا وذاك صاحب ذاكرة حديدية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة