«قد يبدو هذا الحديث حزيناً أو محبطاً، ولكن رأيت أن أشارككم صورة من الماضى وأخرى من حاضرنا الذى نعيشه ونكابده معاً، على الأقل كما أراه، لعلنا نتفكر فيما أصابنا.. وللحديث بقية إن كان فى العمر بقية».
أعلاه خاتمة ما خطه الدكتور طارق شوقى، وزير التعليم، على «فيس بوك» محبطاً تماماً مما آلت إليه الحالة الحوارية المصرية التى باتت وأصبحت مشتمة لا تستثنى أحدا إلا من رحم ربى.
الدكتور الوزير متحسرا على ماض تليد مقارنة بحاضر حزين يبكى عليه، يبكى أطلال زمن بديع وبشر رائعين، أشاركه الكثير مما كتب، وأشاطره حزنا، وأزيده من الشعر بيتاً.
صدقت يا سيدى، تغيرت الأدوات وأصبح الصوت العالى أقوى من العلم والمعرفة، وانتصر الابتزاز الفكرى على المنطق والحجة، وسؤالكم فى محله تماما: «كيف نتشدق بحرية الرأى ثم ننهال سباباً وتجريحاً فى أى صاحب رأى لا نتفق معه وكأن الرأى الآخر عداوة مطلقة تستدعى نواقيس وطبول الحرب، وإذا ضاعت قيمة العلم والمعرفة والحجة والمنطق تحول الكلام إلى حالة عبثية من الضجيج كالتى نعيشها اليوم!».
الوزير شوقى يلخص حالة عبثية نعيشها، نعيش عالما وهميا موهوما متوهما، نسجته قوى غيبية غبية من نسيج الخرافة والجهل والتجهيل والتسطيح، صرنا نتبضع الوهم واهمين متوهمين أننا على حق وغيرنا على باطل، إذا اختلفنا شقت جيوب وتمزقت عرى، ونحن نقتتل ونحترب، ننتحر، مقودين من أعناقنا إلى حتف مقدور، كالحيتان تنتحر قطعانا إذا جنحت إلى الشاطئ القريب.
الوزير مصدوم فى هذا التردى الذى نمرغ وجوهنا فيه، نتمرغ فى تراب تربة خصبة للشائعات والتشهير وهدم الأمم، واغتيال الرموز، وتقزيم القامات، صدقت: بات الناس لا يسألون سنداً أو مرجعيةً لأى شىء يكتب ولا يحتاج المرء علماً أو مصداقيةً كى يتناول شتى الأمور، ولهذا كله نجده يسيراً جداً أن تنتشر الشائعات والأكاذيب والتحريف والتزييف.. وكأننا نجد سعادةً خاصة فى تناول سيرة الناس وتحقيق مكاسب خاصة بأقل جهد بإثارة بلبلة دائمة تستنزف الوقت والجهد وتقتل العزائم والهمم.
أتذكر، والوزير يتذكر قائلا بلسان الحاضر متحسرا على ماض تولى: «تذكرت هذا وأنا أقرأ فى صحفنا اليوم وتأملت فى ضياع لغة الحوار واستبدالها بالصراخ والسباب ليل نهار على مواقع التواصل الاجتماعى»، نعم ياسيدى الذباب الإلكترونى «خلى عيشتنا هباب»، ينفسون ما فى صدورهم من سناج يسود الوجوه، الثعالب العقورة كامنة فى الدغل الفيسبوكى، وما إن تظفر بلحم طرى حتى تنهشه نهشاً وتمزقه إربا، وكم من قامات قضوا محسورين ضحايا هذه الماكينة الشريرة النهمة التى لا تشبع أبداً، وتروم المزيد، هل من مزيد؟
يرثى الوزير لغة الحوار: «تأملت أيضاً فى تردى اللغة العربية فيما نقول وفيما نكتب ومن العجب أن تتهاوى اللغة الأم ومعها اللغات الأخرى وقد استبدلنا هذا كله بلغة دارجة ركيكة ومصطلحات لا أعلم من أين جاءت وكيف تروق لنا بديلاً عن جمال ورصانة لغتنا الأم».
ومن جانبى أرثى حتى العامية المصرية، بكل حيويتها ودفئها وعبقها ومخزونها الحضارى الذى يخاصم لفظا نابيا، ويأنف وصفاً بذيئا، ويتحسس مواضع الكلم ووقع الحديث، ورقى الحوار، وترصع حوافها الطيبة بآيات الشكر والحمد والقناعة والرضا.
«فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ..» صدق الله العظيم، ألسنة حِداد، ألسنة طويلة تهين فينا أجمل ما فينا، وتهين فينا أرقى ما فينا، وتستمطر اللعنات فوق الرؤوس، وتصلينا عذابا مقيماً، صرنا نتلظى بنار مسحورة تبخها كائنات مسعورة مطلوقة من عقالها تعقر عفتنا، تمزق سترنا، تعرينا وسط الخلائق، صرنا عراة من كل ستر، تستوجب هنا «الحوقلة»: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة