"لسانك حصانك أن صنته صانك وإن هنته هانك"، و"لو كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، و"من صمت نجا" أمثال شعبية
"نادرًا ما كنت أفتح فمى للحديث.. إذ ما الذى يستطيع أن يقوله مثقف لغول".. هذا ما قاله الكاتب اليونانى نيكوس كازنتزاكيس عن صديقه وبطل روايته «زوربا».
لم يكن زوربا غولًا بالمعنى السلبى للتسمية، بل كان شخصية جميلة، وكان مصدر إلهام ومتعة حقيقية لصاحبه الذى كان يصغى إليه وهو يحدثه عن قريته الواقعة إلى جانب جبل الأولمب، عن الثلج والذئاب والفحم والنساء والموت، وحين تضيق الكلمات على زوربا، ويقترب من الاختناق يقفز على قدميه، ويبدأ الرقص على حصى الشاطئ!
أما مولانا جلال الدين الرومى فيقول «إننا لسنا بعد أهلًا للكلام، فيا ليتنا كنا أهلًا للإصغاء»، أما الشاعر والأديب جبران، فقال: «تعلمت الصمت من الثرثار»، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا تَكَلَّمَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ».
محمد رمضان واسماعيل ياسين
يمتلى الأدب والسينما والتصوف والدين بمقولات كثيرة عن الصمت وفضائله.. درسنا بعضًا منها، وتعلمنا وقرأنا عن الأخرى، وبالطبع أعتذر عن الاستشهادات الكثيرة، والإطالة فى المقدمة، ولكن أفترض أن نجمًا بذكاء محمد رمضان، الذى عادة ما يردد أنه قارئ نهم، وأنه اطلع على الكثير من الأدب العالمى، ما كان عليه أن يقع فى مثل هذا الفخ أو ينجر إلى تلك المصيدة.. هل يعنى كلامى أننى ضد أن يعبر رمضان عن رأيه بكل أريحية؟.. أبدًا، من حق رمضان أو أى نجم غيره أن يعبر عن رأيه فيما يحب، وبالطريقة التى يفضلها، فلا أحد فوق النقد، ولكن فى الوقت نفسه عليه أن يدرك قيمة الكلمة التى ينطق بها، والتوقيت الذى تقال فيه.. قدر من الذكاء يصلح الكثير من الأمور، حيث جرى العرف أنه يصعب أن تطلق تقيمات وأحكامًا على زملائك فى نفس المهنة، وإذا تحدثت عادة ما تقول «أحب فلانا» أو «موهبة فلان تأخذنى أكثر»، ولنا فى النجم القدير والكبير نور الشريف قدوة، حيث إنه فى أكثر من مناسبة، وعندما كان يسأل عن أصدقائه من نجوم جيله، ومنهم أحمد زكى ويحيى الفخرانى ومحمود عبدالعزيز، كان دائمًا ما يشيد بموهبة كل منهم على حدة، ويعطى نفسه تقديرًا أقل، وهذا ما يطلق عليه ذكاء النجم وخبرته.
محمد رمضان
ولكن يبدو أن النجم محمد رمضان لا يزال مأخوذًا بالنجومية، وما حققه من نجاح مادى ومعنوى فى السنوات القليلة الماضية، مع صغر سنه وقلة خبرته فى إدارة ما يملك، وحتى الآن لا يستطيع أن يكبح إحساس الزهو بنفسه، وهو ما يؤدى بالطبع إلى استفزاز الكثير من زملائه فى الوسط الفنى، رغم أنه لو تريث قليلًا سيدرك أن المستقبل لا يزال أمامه، ولكن رمضان فى تلك المرحلة يقف حقيقة بين مفترق طرق، وهو أن يكون نجمًا متزنًا يدرك ماذا يقول ومتى، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بنجم يعد «أيقونة» من أيقونات الفن المصرى، وهو إسماعيل ياسين، الذى يملك تراثًا شديد التنوع والثراء، بدءًا من فن المونولوج، ووصولًا إلى السينما وأفلامه ومسرحياته العديدة.
رمضان في سيارته
عبقرية إسماعيل ياسين، ووعى القائمين على إنتاج أفلامه، جعل من أفلامه، «إسماعيل ياس فى الجيش»، و«إسماعيل يس فى الأسطول»، و«إسماعيل يس فى الطيران»، وغيرها أفضل ترويج للمؤسسة العسكرية، وأقصر طريق لتقديمها إلى الرأى العام المصرى بعد ثورة يوليو، كما أنها نجحت نجاحًا ساحقًا فى تحقيق هدف عبدالناصر المعلن فى تلك المرحلة لبناء جيش «المليون مقاتل مصرى».
وأبرزت أفلام إسماعيل ياسين عن الجيش ميزة مهمة جدًا فى الجندى المصرى، ليست الشجاعة ولا القوة، لكنها قدمته كأى فرد من أفراد المجتمع البسيط المستعد دومًا أن يفعل أى شىء فى سبيل وطنه، حتى أنه تطوع فى القوات البحرية رغم أنه يخشى البحر بشدة، كما أنه تطوع فى القوات الجوية رغم رعبه من الطيران.
فيلم اسماعيل ياسين في البحرية
وكانت هذه هى الرسالة البسيطة من أفلام عملاق الكوميديا إسماعيل ياسين، وهى بناء جيش من المصريين المحبين لبلدهم والمستعدين للتضحية بأرواحهم فداءً لوطنهم، دون الحاجة إلى تقديم صورة البطل الأسطورى البعيدة عن الواقع، كما يفعل محمد رمضان، الذى لم يعجبه ما كان يقدمه ياسين، وقال إنه يسىء إلى الجندى المصرى، حيث قال فى تصريحات صحفية: «أنا حابب إنى أعمل أفلام تبين هيبة الجندى المصرى، ومدى اهتمامه للبلد، مش عاوز أعمل العسكرى اللى اللبس واسع عليه، اللى فهمه بطىء، كنت عاوز أعمل الجندى المصرى كما ينبغى أن يكون».
وبعد ذلك تراجع النجم محمد رمضان عن التصريحات التى أكد فيها أن أفلام نجم الكوميديا المصرى الراحل إسماعيل ياسين أساءت للجيش المصرى، ونشر فيديو عبر صفحته الرسمية «فيس بوك» يوضح كلامه لعائلة الراحل إسماعيل ياسين، قائلًا: «كل سنة والشعب المصرى طيب.. حق التوضيح، إسماعيل ياسين أكتر ممثل بيضحكنى، ويشهد على كلامى الأستاذ أيمن بهجت قمر، وحافظ جميع أغانيه».
اسماعيل ياسين في البوليس
إسماعيل ياسين لم يكن مجرد نجم عابر فى سماء الفن المصرى، بل هو ظاهرة فنية أسهمت فى تشكيل وجدان أجيال بأكملها، ولا يزال تأثيرها ممتدًا حتى الآن، خاصة أن رحلة إسماعيل ياسين نفسها تستحق التوقف عند كل مرحلة فيها، لأنها مليئة بالعبر الإنسانية، فهو شاب بسيط وصل إلى قمة النجومية وتألق، وكان المنتجون يتهافتون عليه، وانتهى به الحال معدومًا، ولكنه لم يستسلم، ورفض أن يعوله أحد، فعاد للعمل فى الكباريهات كواحد من أهم المونولوجستات الذين عرفتهم مصر.. وفى ظنى أنه لو رمضان قرأ وتمعن فى حياة النجم الكبير والقدير إسماعيل ياسين لتعلم الكثير، فهو نجم خدمت شعبيته وجماهيريته الطاغية وطنه، وتم توظيفه واستغلاله، حيث أن أفلام ملك الكوميديا الخاصة بالجيش والبوليس كانت بالاتفاق مع المخابرات المصرية، استغلالًا لشعبية إسماعيل فى الشارع المصرى وقتها، لتثبت نجاح ثورة 23 يوليو 1952، والتأكيد على بناء الجيش بكل قوة، وفى الوقت نفسه كانت هذه الأفلام هى الأقرب لقلبه، رغم أن أفلامه قاربت على 200 فيلم، وهى الأكثر تسمية باسمه.
فيلم اسماعيل ياسين في الجيش
إسماعيل ياسين الذى جاء إلى القاهرة قادمًا من السويس وهو فى عمر الـ17، فى بداية الثلاثينيات، حيث عمل صبيًا فى أحد المقاهى بشارع محمد على، وأقام بالفنادق الصغيرة الشعبية، ثم التحق بالعمل مع الأسطى «نوسة»، التى كانت فى وقتها واحدة من أشهر راقصات الأفراح الشعبية، ولكن للأسف ما كان يتحصل عليه من أموال لم يكن يكفيه لذلك، فالتحق بالعمل فى مكتب أحد المحامين، إلا أن حبه للفن لم يجعله يتوقف عن السعى لذلك، فذهب إلى كازينو «بديعة مصابنى»، حيث كان يلقى المونولوجات بعد أن اكتشفه توأمه الفنى وصديق عمره وشريك رحلة كفاحه الفنية، المؤلف الكوميدى الكبير أبوالسعود الإبيارى، الذى كوّن معه ثنائيًا فنيًا شهيرًا فى ملهى بديعة مصابنى، ثم فى السينما والمسرح.
اسماعيل ياسين ورياض القصبجي
استطاع إسماعيل ياسين أن ينجح فى فن المونولوج، وظل عشر سنوات منذ عام 1935 حتى 1945 متألقًا فى هذا المجال، حتى أصبح يلقى المونولوج فى الإذاعة نظير أربعة جنيهات عن المونولوج الواحد، شاملًا أجر التأليف والتلحين، والذى كان يقوم بتأليفه دائمًا رفيق مشواره الإبيارى.
فى عام 1944 جذبت موهبة إسماعيل ياسين انتباه أنور وجدى، فاستعان به فى معظم أفلامه، ثم أنتج له عام 1949 أول بطولة مطلقة فى فيلم «الناصح» أمام الوجه الجديد ماجدة.
استطاع ياسين أن يكون نجمًا لشباك التذاكر، تتهافت عليه الجماهير، وكانت أعوام 52 و53 و54 عصره الذهبى، حيث مثل 16 فيلمًا فى العام الواحد، وهو رقم لم يستطع أن يحققه أى فنان آخر.
اسماعيل ياسين
وعلى الرغم من أن إسماعيل ياسين لم يكن يتمتع بالوسامة والجمال، وهى الصفات المعتادة فى نجوم الشباك فى ذلك الوقت، فإنه استطاع أن يجذب إليه الجماهير عندما كان يسخر من شكله، وكبر فمـه فى معظم أعماله. وهكذا استطاع أن يقفز للصفوف الأولى، وأن يحجز مكانًا بارزًا، مما دفع المنتجين إلى التعاقد معه على أفلام جديدة، ليصبح البطل الوحيد الذى تقترن الأفلام باسمه حتى وصل للقمة.
وفى عام 1954 أسهم فى صياغة تاريخ المسرح الكوميدى المصرى، وكوّن فرقة تحمل اسمه بشراكة توأمه الفنى وشريك مشواره الفنى المؤلف الكبير أبوالسعود الإبيارى، وظلت هذه الفرقة تعمل على مدى 12 عامًا حتى 1966، قدّم خلالها ما يزيد على 50 مسرحية بشكل شبه يومى، وكانت جميعها أيضًا من تأليف أبوالسعود الإبيارى.
أتمنى أن يتعلم رمضان من هذا الموقف، خصوصًا أن ما حدث صادف نفس توقيت عرض فيلم «الكنز»، للمخرج الكبير شريف عرفة، الذى يشارك رمضان فى بطولته بدور شديد التميز.. كان على رمضان أن يكتفى بالحديث عن تلك التجربة، ونجاحه بها، لأنه بالتأكيد هذا الموقف أخذ من رمضان ولم يضف له.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة