ليست المرة الأولى التى يطلب الأكراد الانفصال، هذه مسألة طرحت تقريبا منذ انهيار الدولة العثمانية التى حكمت هذه المنطقة من العالم لقرون طويلة، فقد كان من أهم مصالح الاستعمار ألا تقوم دولة قوية أخرى فى تلك المنطقة بخلاف الدولة العثمانية، ترث صراعها الطويل مع الأوربيين الذى وصل إلى حد حصار السلطان سليمان القانونى للعاصمة النمساوية"فيينا" عام 1532 ميلاديا.
لأجل ذلك فى معاهدة سيفر الموقعة عام 1920 والتى قسمت تركة "الدولة العثمانية"، وضع الحلفاء المنتصرون فى الحرب العالمية الأولى وعدا بإقامة دولة كردية فى المنطقة، والذى لم يكن وعدا من قبيل الحب والمحبة أو الإيمان بالقضية، بل كان الهدف الأهم دوما هو ترك كيانات مفككة، تعانى النزاعات والخلافات، وفى المقابل فإن "سؤال الهوية" الذى أثير بعد انهيار آخر الخلافة، أجل نفسه لحين جلاء الاستعمار، ومع قيام ثورة عام 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم، بدأت مشكلات التمرد الكردى، وعادت الأحلام القديمة.
الحروب بين الأكراد والحكومات العراقية .. مئات الآلاف من الضحايا
ثلاثة أعوام فقط احتاجها الأكراد بعد استقلال العراق لتندلع أولى حروبهم مع الدولة العراقية الأولى، حيث اشتعلت حربهم الأولى منذ عام 1961 وحتى عام 1970، وانتهت بتوقيع اتفاقية للحكم الذاتى بين العراق والأكراد، والتى تعطيهم الحق فى المشاركة فى الحكومة، واستخدام لغتهم كأحد اللغات الرسمية فى البلاد، ولكن مدينة "كركوك" النفطية بقيت نقطة عالقة فى الأمر.
بعد ذلك وقعت الحرب الكردية الثانية بين عام 1974 وحتى عام 1975 بعد انهيار اتفاق السلام، كما وقعت عدة اشتباكات كردية فى إيران، وكذلك النزاع التركى الكردى الطويل بين تركيا وحزب العمال الكردستانى، ولعل واحدا من أهم الأحداث المأساوية فى تاريخ هذا الصراع، حملة "الأنفال" التى قادها صدام حسين لمواجهة الأكراد حين دعمتهم إيران لإضعاف جبهة صدام الداخلية أثناء "الحرب العراقية الإيرانية" الطويلة التى اندلعت منذ عام 1980 وحتى عام 1988، والتى شهدت من بين ما شهدت قصف قرية حلبجة الكردية بالسلاح الكيماوى.
وأخيرا كانت "الانتفاضة الشعبانية" التى اندلعت فى عدة مناطق فى العراق بعد هزيمة صدام حسين فى حرب الخليج الثانية عام 1991 وانسحابه من الكويت، والتى أدت لوفاة ما بين 85 و 235 ألف مواطن عراقى.
اسرائيل الداعم الأكبر للأكراد منذ الستينات
فى الوقت الذى كانت فيه العراق دولة قوية ونفطية، وتتخذ حكوماتها موقفا داعما للقضية العربية فى وجه الصهيونية، كان الأكراد قد بدأوا تمردهم ، فمد الإسرائيليون يد العون لهم، وتحديدا زعيمهم مصطفى البرزانى، ما بين عامى 1963 و1973، بل وعينت مسئولا فى الموساد لإدارة تلك الحرب وهو "أليعازر" تسافرير"، وهو أيضا ما حدث بعدها خلال "الانتفاضة الشعبانية "1991".
العلاقات الغامضة طوال الوقت ربما ظهرت للعلن عام 2004، فى اللقاء الذى جمع بين مسعود برزانى، وجلال طالبانى ممثلين عن الجانب الكردى، مع الرئيس الاسرائيلى السابق إيريل شارون، لذا فإن اسرائيل هى الآن الدولة الوحيدة الداعمة للاستفتاء الكردى على الانفصال عن العراق، ولكن رغم هذا فإن السبب الرئيسى ليس ما يدور فى العراق بل ما يدور فى سوريا.
"الربيع العربى" يحول الحلم الكردى إلى "حقيقة"
لم تكن العلاقة السورية الكردية علاقة طيبة فيما قبل، فلقد عانى الأكراد فى شمال سوريا مثل غيرهم من الأقليات التهميش والمشكلات الضخمة، وهو ما تسبب أيضا فى وقوع اندلاعات ربما أقل قوة مما حدث فى العراق، وتميزت بالطابع الشعبى الغاضب، ولعل أشهرها هو أحداث "القامشلى" والتى اندلعت بسبب مباراة كرة، وخلفت عشرات القتلى.
لكن ما يميز "الأكراد" عن غيرهم هو "البراجماتية" وقدرتهم على تطويع الواقع لأهدافهم، فمع تحول الثورة السورية إلى "حرب أهلية" بعد حمل المعارضة السورية السلاح، وظهور الجماعات الإسلامية المسلحة، حمل الأكراد السلاح فى سوريا أيضا، لكنهم توصلوا إلى اتفاق ضمنى مع النظام السورى الذى يقوده الرئيس بشار الأسد، كان الاتفاق الضمنى بسيطا، لا نقاتلكم ولا تقاتلوننا، وتمنعون أى غريب عن مناطقكم.
وبالفعل بدا الأكراد أنهم واقفون على الحياد فى أغلب أوقات الحرب الكردية السورية، ولكن مع ظهور "وباء داعش" فى المنطقة كان لهذه القوات الساكنة الهادئة التى تحمى مواقعها دور آخر.
انهارت القوات العراقية سريعا، فضلا عن تفكك الرقعة السورية أصلا بسبب الثورة السورية، ومع الدخول "الدرامى" للدواعش إلى الموصل تحول بسرعة عدد من المقاتلين "الإسلاميين" فى "جبهة النصرة" وعدد من الفصائل الأخرى ليبايعوا "أبو بكر البغدادى"، فى هذا الوقت كان الأكراد القوة الوحيدة الصامدة والتى لم تخض حربا حقيقية حتى اللحظة والتى لها قواتها وعتادها وتنظيماتها القوية.
ومع حصار الدواعش لمدينة "عين العرب" أو "كوبانى" اتخذت المعركة شكلا سينمائيا، ليس للأهمية الاستراتيجية للمدينة، ولكن بفضل تلك التلة التى تطل عليها من الحدود التركية والتى جعلت متابعة الحرب لحظة بلحظة أمرا سهلا ويسيرا.
من هنا بدأ أكراد سوريا يكتسبون بريقا فى العالم الغربى، وبدا الغرب يلقى بثقله خلفهم، فتأسست قوات "سوريا الديمقراطية" والتى يسيطر على أغلبها الأكراد فى أكتوبر 2015، بعد النجاح الكردى فى التصدى للدواعش فى كوبانى وإلحاق أول هزيمة بهم.
مساحة سيطرة الأكراد فى سوريا تتضاعف 3 مرات فى عام ونصف
الصورتين التاليتين هما تقسيم لخرائط النفوذ فى الأراضى السورية، الأولى فى يناير 2016 أى قبل عام و 9 أشهر والأخرى صبيحة اليوم، اللون الأصفر يمثل القوات الكردية، أما الأخضر فيمثل المقاتلين السوريين الإسلاميين، فيما يمثل اللون الأسود تنظيم داعش، أما اللون الأحمر فهو النظام السورى.
يمكن أن نلحظ التطور الرهيب فى خلال عام و9 أشهر فى المساحة التى سيطر عليها الأكراد وكيف زادت، هذه المساحة تحديدا هى التى تغريهم بمسألة الانفصال وتجعلها أقرب إلى أحلامهم من أى وقت مضى.
"مدرعات، قذائف هاون، صواريخ حرارية، رشاشات من عيار كبير، وبنادق شبه آلية وتلقائية، مناظير الرؤية الليلية محملة على 90 سيارة نقل"، هذه مثلا نموذج للمجموعة الأخيرة من ألأسلحة التى تسلمتها قوات "سوريا الديمقراطية" التابعة للأكراد فى يونيو الماضى، وهى بالمناسبة المرة السابعة التى يتلقى فيها التنظيم سلاحا من الولايات المتحدة الأمريكية منذ تولى دونالد ترامب السلطة.
إذن هناك تنظيم قوى، يسيطر على مساحات شاسعة فى الجوار، وهناك قوات كردية فى الشمال مقابل جيش عراقى مازال يتعافى، وهناك أراضى فرغت من أهلها هجروها بسبب الحرب، وهناك جهود إعادة إعمار ودولة عراقية وسورية منهكة.
اليوم وفى ظل المعركة الدائرة على بقايا جثمان تنظيم داعش فى محافظة دور الزور، بدأت المواجهة بين النظام السورى والروس من ناحية، والأمريكان والأكراد من ناحية أخرى.
التقسيم الذى يلوح فى الأفق ويخيم شبحه على العراق هو ضريبة "الربيع العربى"، والذى تدفع دول عدة فى المنطقة ضريبته اليوم، وأيا كانت نتيجة الاستفتاء المقرر إجراؤه فى 25 سبتمبر الماضى، فإن الوضع بفضل تنظيم داعش أكثر من أى شخص آخر بات أفضل من أى وقت مضى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة