«غيابُ الحبِّ أصلُ كلّ شرور العالم». ذاك هو القانون الذى آمنتُ به طوال حياتى. لماذا أسميتُه «قانونًا»، وليس مجرد «نظرية» أو «فكرة» أو «رأى»؟! لأن أدلةَ ثبوتِه فى حوزتى. لدىّ مئاتُ الأدلة الثبوتية التى كوّنتُها عبر تجاربى وقراءاتى، حوّلت النظريةَ والفلسفة والملاحظة، إلى قانون صارم، ربما لا استثاء فيه. حاولْ أن تتأمل معى تلك العبارة فى صدر المقال. ثم تتبّع صدقَها أو كذبها عبر تطبيقها على كل ما مرّ بك من شرور، سواء فى حياتك الواقعية أو فى فيلم شاهدته أو رواية قرأتها أو حكاية سمعتها. فى الأغلب ستُصدّق معى على تلك الفكرة وتُقرُّ بأن غياب الكنز الثمين الذى اسمه «الحب» هو السبب الرئيس وراء كل شرور الدنيا. لهذا أدعوك أن تحذرَ غيابَ الحب من قلبك. لأن هذا الغياب سوف يعقُبه غيابُ الحق والخير والجمال من حياتك. ثم لا يتبقى بعد ذلك إلا غياب «الحياة»، ذاتِها.
فإن قبضتَ على نفسك مُتلبّسًا بالكراهية، اعلمْ أنك فى خطر. مصدرُ الخطر ليس مَن تكرهه. إنما الخطرُ قادمٌ منك أنت، متوجهٌ صوبكَ أنت. أنت اليوم تمثّلُ خطًرًا داهمًا على نفسك! أنت الآن مستعدٌ لارتكاب كل الخطايا التى عرفها الإنسان. لا تستثنِ أية خطيئة عن خيالك. لو توفرت لك أدواتُ أية جريمة، فسوف تأتيها. أنت فقط رهن توفُّر ظروف مناسبة لارتكاب أية معصية أو خطيئة أو جريمة. والسبب؟ «غياب» الحب عن قلبك.
هو المبدأ الذى آمنتُ به، وسأظل أومنُ به مادام قلبى قادرًا على الخفق والحب. طبّقتُه على كل خطايا البشر، فتحقّق دائمًا دون أى استثناء. فحين تقتلُ، فلأنك لم تحب. وحين تظلم فلأنكَ لم تحبّ. وحين تكره، فلأنك أخفقتَ أن تحب. وحين تسطو على حقوق جارك، فلأنك لم تُحب. وحين تكون عنصريًّا أو طائفيًّا، فبالقطع قلبُك قد غاب عنه الحب.
وكما عوّدتُ قارئى الكريم فى «اليوم السابع» على أن أنشر فى نافذتى هذه بعض الأفكار التى أطرحها فى صالونى الذى تستضيفه مكتبة مصر الجديدة العامة، فى السبت الأخير من كل شهر، أطرح اليوم ما ناقشته مع رواد الصالون بالأمس: «ظاهرة الحب لدى الإنسان». وحين فكرتُ فى نموذج فريد للحب لأدلل به على فكرتى، لم أجد خيرًا من «أم الغلابة»، السيدة التى أحبّت دون شرط ودون انتظار مقابل. لأن مَن أحبتهم لا يملكون ما يقدمونه لها، لا ماديًّا ولا حتى معنويًّا. فهم أفقر وأغلب وأشقى من أن يقدموا أى شىء مما يقدمه الناسُ للناس.
هى أمٌّ الأطفال، رغم أنها عذراءُ لم تعرف الرجال، ولا حمل رَحِمُها جنينًا! استمتعتْ بسماع تلك الكلمة الساحرة: «أمى» من ألسن ملايين الأبناء من البشر الضعفاء والأقوياء، رغم حرمانها الاختيارى من الأمومة الجسدية والزواج. اختارت حياة الرهبانية والبتولية والعُذرية والفناء من أجل أطفال، لم تحملهم فى أحشائها.
كرّست عمرَها لمحاربة «عدو» واحد وحيد. هى التى لم تصنع أعداء طيلة حياتها الشاقّة. لكنها عرفت كيف تختار عدوَّها. فالذكاء يكمن فى اختيار «الأعداء»، لا فى اختيار الأصدقاء وحسب. المثقفُ الكبير هو مَن يختار عدوَّه كبيرًا هائلاً وخطيرًا. حتى يكون النزالُ بين نِدّين، كليهما كبيرٌ وقوىّ. أىُّ نُبل فى أن تختار عدوًّا ضعيفًا كسيرًا، مهزومًا سلفا! لهذا اختارت تلك السيدةُ القوية عدوَّها ذا بأس وجبروت، ويمثل خطرًا داهمًا على كامل المجتمع البشرى.
عدوُّها الأوحدُ كان مرضًا خطيرًا يهدد الجنسَ البشرى أطلقت عليه اسم: «مرض نقص الحب». كانت تؤمن أن لكل داءٍ دواءً، إلا مرضًا واحدًا عزّ دواؤه ونَدُر. هو شعور الإنسان أن «لا أحد يحبُّه». لهذا استهدفت أولئك المرضى «بعوز الحب»، ومنحتهم كامل حبّها، ثم حرّضت الآخرين «الأصحاء» على منح أولئك المرضى جرعات مكثفة من الحب، فكان كلٌّ يعطى بقدر طاقته، فيما بقت طاقتُها الخاصة على منح الحب، لا تباريها طاقةٌ بشرية أخرى.
راحت تعلّم الناسَ كيف يحبون قائلة: «الأشياءُ التى تؤمّن لنا دخول السماء هى أعمال المحبة والكرم التى يتحتم أن تملأ وجودنا وأيامنا. آه لو عرفنا ماذا تفعل ابتسامةٌ مُحبة لمريض! هكذا نعلن من خلال ابتساماتنا أن الله يسامحنا إن تعلمنا كيف نحب المرضى ونساعد الفقراء، بهذا فقط نستحق أن يغفر الُله لنا خطايانا».
مَن استهدفت؟ مرضى الجُذام. أولئك الذين يهرب الناسُ منهم مخافة العدوى. احتضنتهم وحملت أطفالهم المنبوذين مقروحى الأبدان. قبّلتهم غير عابئة بالميكروب الخطير الذى يفتك بالجسد. حوّلت معبدًا هنديًّا يسمى معبد «كالى»، وهو إله الموت والدمار عند الهندوس، إلى دار لرعاية المصابين بأمراض لا شفاء منها، حتى يتمتعوا بالحب والرعاية والحنو وقبول الآخر لهم فى أيامهم الأخيرة. ثم توالت الدورُ التى أنشأتها لإيواء المنبوذين المصابين بأمراض مُعدية مثل: «مدينة السلام»، «القلب النقى»، «أخوة المحبة»، عدا مئات من دور للأيتام، جعلتهم يشعرون فيها كم هم محبوبون ذوو كرامة. وارتدت طوال حياتها ثوبًا بسيطًا أبيض اللون مثل السارى الهندى، له إطار أزرق عند الكُمّين. وجعلت الراهبات القائمات على تلك الدور يرتدين مثلما ترتدى، لكى يتعرف المحتاجون عليهن بسهولة، فيطلبون منهن المساعدة.
إنها الراهبة الألبانية الأم تريزا. أم المرضى والفقراء والمجذومين واليتامى. ولدت عام 1910، ورحلت عن عالمنا عام 1997، بعدما نالت جائزة نوبل للسلام عام 1979. لم تعترف بين كل ما نالت من ألقاب، إلا بلقب واحد هو: «أم الغلابة». ذاك أن الغلابة هم أقربُ البشر إلى الله.
البهية النقية البتول، أحببتك دون أن أراك، كما أحبّك مليارات البشر فى شتى أرجاء الأرض. ولأنك اخترتِ أن تغادرى عالمنا يوم 5 سبتمبر، وهو موعد طيران أمى إلى الله، فأنا أعزّى نفسى فيكِ مرتين، لا مرةً واحدة. طوبى لكِ وطوبى لكل من تعلّم منك الحبَّ حتى يصل إلى الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة