قد تجرُّ مباشرة الإنسان لأسباب حياته والقيام بمهام تكليفه فيها إلى أن يقرض غيره أو يقترض منه، وهذه المداينات بين الناس مشروعة بأطول آية فى كتاب الله، حيث قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...»، ومشروعة كذلك بسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا وتقريرا، فقد ورد فى الصحيح أنَّه - صلى الله عليه وسلم - مات ودرعه مرهونة عند يهودى فى طعام اشتراه لأهله، ولما كانت المداينات مما يحتاج إليه الإنسان فى حياته، ولما كانت كذلك مشروعة بأدلة الكتاب والسنة، فقد أجمع الفقهاء سلفا وخلفا على مشروعية المداينات بين الناس.
ومن المعلوم للجميع أن زكاة المال فرض وركن من أركان الإسلام الخمسة، غير أن ما استوقف الفقهاء عند النظر فى مسألة إخراج الزكاة هو ما إذا كان المزكى دائنا لغيره أو مدينا له. فلو أن الإنسان وجبت عليه الزكاة بأن بلغ ماله النصاب الشرعى وهو مدين أو دائن، فهل يزكى هذا الدين أو لا يزكيه؟
وهذا مبحث فقهى راقٍ يتناول الأخلاق مع التكليف جنبا إلى جنب، فالوفاء بالحقوق، وعدم المماطلة فى سداد الديون المستحقة، وعدم أكل أموال الناس بالباطل، كل ذلك مما يأمر به الشرع ويندبه، فضلا عن تأثير الدَّين على ما فى يد المزكى زيادة أو نقصانا.
وفى تناول الفقهاء لزكاة الدين نجدهم قد اتفقوا على حكم بعض الصور واختلفوا فى بعضها الآخر، فاتفقوا على أن المال إن كان دينا للمزكى على آخر، وكان هذا الدين غير مجحود من قبل المدين، وكان المدين قادرا على رد الدين وغير ممتنع من تسليمه إلى الدائن متى ما طلبه، فإنه يُضم حسابيا إلى الأموال التى فى يد المزكى وكأنه فى يده فيزكى المال كله، ومثال ذلك: أن يعطى الإنسان جزءا من ماله لغيره ليستعين به فى عمله أو تجارته أو غير ذلك، على أن يرده المقترض فى موعد معلوم، ثم يرد المقترض هذا المال دون زيادة أو نقصان، فهذا المقترض لا يمانع فى رد قيمة القرض، لكن الدائن تركه عنده لأنه ليس فى حاجة إليه رجاء استفادة المدين به فى تجارته من باب البر والصلة والعون، فهذا المال فى هذه الحال كأنه فى يد صاحبه لأنه مقدور على تملكه، ولذا يضم حسابيا إلى الأموال التى فى يد المزكى ويزكى جميع المال، فمثلا إن كان المزكى يملك نصف مليون جنيه، وهو دائن لآخر بمثله، فزكاته على المليون كاملا بنسبة %2.5 إذا حال عليه الحول.
ومما اتفقوا عليه أيضا أن الديون التى للإنسان على آخر ولكنها مجحودة، بمعنى أن المدين منكر لها، أو يدعى أنه ردها إلى الدائن ولم يصبح مدينا له–وهو ليس كذلك- أو كان المدين معترفا بما عليه من دين لكنه مفلس لا يمكنه الوفاء بما عليه من ديون، ففى الحالتين لا يُحتسب هذا الدين فى المال المزكى ولا زكاة فيه إن بقى مجحودا أو عند مفلس لسنين، لأن هذا المال فى حكم المعدوم عند حلول وقت الزكاة، وعلى المزكى أن يزكى هذا المال عند قبضه من المدين، أو إقرار المدين به مع القدرة على تسليمه.
أما إن كانت الديون على المزكى، فقد اختلفت كلمة الفقهاء فى خصم قيمة الدين الذى حل وقت الوفاء به، فيرى الحنفية أن يخصم مقابل الدين من جملة المال المزكى، فإن كان المدين مالكا لخمسين ألف جنيه مثلا فى يده، وهو فى ذات الوقت مدين بعشرة آلاف، فإنه يزكى أربعين ألفا فقط، لأنه فى الحقيقة لا يمتلك العشرة وإن كانت فى يده، بينما يرى الشافعية عدم خصم قيمة الدين من المال المملوك فى يد المزكي، فتكون الزكاة على المال كاملا بما فيه المال المدين.
وقد فرق المالكية بين الأموال النقدية والأموال الظاهرة كالحيوان والزروع والثمار، حيث قالوا بعدم تأثر الأموال الظاهرة بالديون التى على المزكى لأنها متى ظهرت تعلقت بها آمال الفقراء وتعين حقهم فيها وهم ينتظرون وقت إخراجها، وفى خصم قيمة الدين منها خيبة وكسر لقلوب الفقراء، بخلاف النقود فهى باطنة لا يراها الناس فإن خصمت منها الديون لم يعلم الفقراء لا بوجودها ولا بما خصم منها. ومع وجاهة هذا الرأى عقلا إلا أنه لا يوجد عليه دليل يستند إليه، وأمور العبادة ومنها الزكاة توقيفية لا يلزم المرء منها إلا بما ثبت دليله.
والقول بعدم وجوب الزكاة على المال المدين ربما يشجع الناس على تأخير سداد الديون والمماطلة فى أداء الحقوق؛ لأن الإنسان متى عرف أنه ليس مطالبا بأداء الزكاة عن مال اقترضه من غيره ربما شجعه ذلك على تأخيره وحبسه عنده لينتفع به مدة أطول. أما القول بوجوب الزكاة على المال المدين ففيه حث على رد الديون إلى أصحابها وتحريك النفوس إلى الوفاء بالحقوق، وهو مطلوب شرعا، فالإنسان متى عرف أنه مطالب بتزكية ما اقترضه من غيره ووقع فى نفسه أنه يغرم من ناحيتين: الأولى: رد القرض لصاحبه كاملا غير منقوص، والثانية: تزكية هذا القرض، متى ما عرف الإنسان المدين ذلك ربما سارع إلى رد المال إلى أصحابه.
ولعل التشجيع على أداء الديون لأصحابها، والمسارعة فى رد الحقوق لأهلها، هو ما يتفق مع جملة نصوص تأمر بالوفاء، وتخوف وتحذر عاقبة الدين، ومنها قول الله تعالى: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ...»، ومنها قول النبى، صلى الله عليه وسلم: «لَىُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»، بمعنى أن مطل وتأخير السداد يدعو صاحب الحق إلى أن يدعو عليه ويقول فيه ظلمنى وأخذ مالى، وقد يعاقب على هذا. ومن هذه النصوص أيضا قول النبى صلى الله عليه وسلم: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»، أى تمنعه من دخول الجنة. وقد ثبت أن رسولنا الأكرم، صلى الله عليه وسلم، كان يمتنع عن الصلاة على مَن مات وعليه دين ولا تركة له يقضى منها دينه، إلى أن فتح الله على المسلمين البلدان، فكان يقضى دين الميت من بيت المال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة