علينا جميعا أن نبحث عن الدور القادم لدولة الصين، التى أصبحت جزءا مشتركا من كل التقارير الاستخباراتية، سواء فى الولايات المتحدة الأمريكية أو دول أوروبا أو اليابان، باعتبار أن كل هذه التقارير تكاد تجزم أن القرن المقبل هو قرن التنين الأصفر «الصينى»، وهو ما يهدد المصالح الغربية والأمريكية معا، وظهرت مئات الدراسات التى أشارت لفكرة التفوق الصينى فى القرن الحالى، وتضمنت تلك الدراسات العديد من وجهات النظر، التى تدعم الانتصار الصينى القادم على الغرب وأمريكا، وربما الدراسة التى أعدتها الباحثة عبير عبدالحليم، والتى اعتمدت على وثائق غربية بصفة عامة وأمريكية بصفة خاصة، وجميعها اعترف بأن هناك مخاوف من التفوق الصينى القادم، واعتبرت الباحثة عبير عبدالحليم فى دراستها أن الاختلافات الهيكلية والمفاهيمية الأساس الذى قاد إلى تشعب المداخل الأمريكية والأوروبية للصين، ويكمن الفرق الأساسى فى مداخلها فى كيفية فهم كل طرف منهما للصين الصاعدة.
الخطاب السياسى الرسمى فى الولايات المتحدة الخاص بالصين دائماً ما يشير إلى صعودها، وتسيطر عليه التحليلات الخاصة بتنامى القوة الصلبة الصينية، وتأثيرات ذلك على مصالح الأمن القومى الأمريكى فى شرق آسيا، وذلك بالنظر إلى تايوان، فهذه هى الزاوية الرئيسية لرؤى المحللين للصعود الصينى والعامل الأساسى الذى شكل الجدل الذى تدور رحاه فى واشنطن، والجدير بالذكر أنه برغم انطلاق قذائف الاستياء الشعبى جراء فقد الولايات المتحدة لوظائفها بالصناعة نتيجة السيطرة الصينية على ميدان الصناعة، فضلاً عن البراعة الصينية الفائقة، وفائضها التجارى مع الولايات المتحدة، إلا أن هذه النقاط تتراجع أولويتها فى أجندة المناقشات لصالح تلك النقاط الخاصة بتأثير الصعود الصينى على الأمن القومى الأمريكى.
وعلى الجانب الآخر، ترى أوروبا الصعود الصينى بعين تركز على التحولات الصينية الداخلية، فالأوروبيون يرون أن الصين دولة نامية ضخمة تقع على منتصف الطريق لمراحل تحولات عديدة تهدف إلى الإبحار بعيداً عن اشتراكية الدولة لترسو على ميناء اقتصاد السوق الحرة والمجتمع الأكثر انفتاحاً والحكومة الأكثر تمثيلية ومسؤولية.
وعلى العكس من المحللين فى الولايات المتحدة، ممن يركزون على الصورة الخارجية للصين، يركز المحللون الأوروبيون بشكل أساسى على المشهد الصينى الداخلى، لذلك فإن هذا الخلاف الأساسى بينهما فى المنظور يستتبعه اختلاف فى السياسات والقرارات، فهذا المنظور يقف وراء قوة السياسات الأوروبية تجاه الصين، التى تهدف إلى مساعدتها فى الاجتياز الأمنى للتحولات والإصلاحات الداخلية، فأوروبا لا تريد للصين أن تمنى بالفشل.
ويبدى الاتحاد الأوروبى الاستعداد لتقبل الصين كما هى عليه، وأن يساعد بكين فى مواجهة تحدياتها الداخلية، وتبعاً لذلك فإن الشعوب الأوروبية واللجنة الأوروبية تؤمن بأن عليهم تقديم الكثير من المشورة والموارد تحقيقاً لهذه المساعدة.
ويجد هذا الموقف الأوروبى تفسيراته فى أنه ليس فقط بحكم خبرة أوروبا الغربية الطويلة مع الديمقراطية الاجتماعية والرفاهية العامة، ولكن يرجع أيضاً للخبرة المستمرة لدول أوروبا الشرقية كاقتصاديات وسياسات تحولية، ظهرت فى فترة مشابهة لظهور اشتراكية الدولة، ومن الثابت أن الصين لم تطرح جانباً نظامها للحزب الواحد ولا يبدو فى الأفق أنها ستفعل ذلك طواعية.
ولكن الأوروبيين يقيسون على خبراتهم مع الديمقراطية الاجتماعية بهدف المساهمة فى تنمية المجتمع المدنى والمجال العام فى الصين، والأوروبيون هنا واثقون من أن هذه الإجراءات كانت التمهيدات لإحداث ديمقراطية فى أوروبا الشرقية، كما يمتد الحماس الأوروبى الاتحادى لنشر خبراتهم فى الإصلاح الصناعى والتعليم العالى وسياسات العلوم والتكنولوجيا، وإعادة تنظيم الإعلام، وخصخصة المواصلات العامة والشفافية السياسية والمساءلة ومجالات أخرى كثيرة، وباختصار، يؤمن الاتحاد الأوروبى بأن لديه الكثير ليقدمه للمساعدة فى تدعيم قدرات البناء فى الصين، وهو لا يتوانى عن الاستثمار الثقيل فى هذه البرامج.
وتعكس الشراكة الاستراتيجية التى تم الاتفاق عليها بين الاتحاد الأوروبى والصين عام 2003 وجهة النظر الأوروبية، وهى أن الصين قد أصبحت بالفعل لاعباً محورياً فى المسائل الأمنية السلمية التى توليها أوروبا اهتمامها، فأوروبا تؤمن بأن التهديدات الأساسية لأمنها تكمن فى التنوع عبر الإقليمى والهجرة غير الشرعية والجريمة الدولية والأمراض المعدية والطاقة والبيئة وأزمات الحكومات الفقيرة، وعلى ذلك يرى الاتحاد الأوروبى الصين كواحدة من القوى العظمى التى من المقدر أن تساهم فى حل هذه المشكلات.
وعلى الرغم من تعثر الشركات الأوروبية والأمريكية فى إطار منافسة جادة للحصول على نصيب من الأسواق فى الصين، على المستوى الحكومى، فإن الاختلاف فى استثمار الموارد يعتبر مؤشراً على تشعب مداخل التعامل مع الصين كقوة صاعدة، فالولايات المتحدة تنشر مواردها بشكل أساسى لمراقبة نمو القوة الصلبة للصين ولردع أى سلوك صينى عدوانى محتمل خلف حدودها، فى حين يستثمر الاتحاد الأوروبى فى مبادرات داخل الصين لزيادة قوتها الرخوة وتيسير عملية التنمية المستدامة بها.
إن الاختلافات الفلسفية بين المداخل الأمريكية والأوروبية للصين تجيب عن سؤال حول كيفية توصل كل منهما لفهم الصين، فكل طرف لا يرى الصين من خلال زوايا مختلفة، كما ذكر من قبل فحسب، بل أيضاً يزيد على ذلك وجود اختلافات تربوية فى اعتباراتهم للمجتمع الصينى على المستويات الحكومية وغير الحكومية، وعموماً فإن فهم هذه الاختلافات التحليلية وكذلك المستويات المتفاوتة من تخصيص الموارد التى تستثمرها أوروبا والولايات المتحدة لفهم الصين، يساعد فى فك شفرات هذه المداخل المختلفة. ونواصل فى الحلقات القادمة أسرارا جديدة من الوثائق الأمريكية حول التفوق الصينى القادم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة