مصر التى لا نعرفها هى الماثلة أمامنا الآن، ومصر التى نعرفها تنسحب تدريجيا، ولا نراها إلا فى أفلام الأبيض وأسود، فنترحم على شوارعها النظيفة، وحاراتها الأصيلة وأهلها الطيبين، ومحمد عبدالوهاب و«الوردة البيضا»، وأم كلثوم، والشيخ محمد رفعت، ونجيب محفوظ، و«أولاد حارتنا».
حتى الأفلام كانت تعكس رقى المجتمع وعظمة الشعب، ولم يكن فيها قبيح يقطع الأجساد بالسيف ويفجر نوافير الدماء، ولا فنان يكتسب شعبيته من قذارة هيئته، ولا نجوم يلهثون وراء برنامج تافه، يسخر منهم ويهين شعبيتهم، ويضرب رموز الفن المصرى فى مقتل، وهم لا يدركون أو يدركون أنهم يلوثون أحد عناصر القوة الناعمة، من أجل حفنة دولارات.
مصر التى لا نعرفها هى الماثلة أمامنا الآن، فى مظاهر التدين الشكلى، البعيدة عن جوهر الإسلام ورسالته، وأن نبينا الكريم أرسله المولى عز وجل، ليتمم مكارم الأخلاق، وأخلاق الإسلام بعيدة تماما عن التطرف والإرهاب والعنف، وتملؤها الرحمة والمحبة والتسامح والمودة، وليس القسوة والغلظة والكذب والادعاء، وحين فتحت مصر قلبها وعقلها للإسلام، اختار شعبها تعظيم جوانب الفرح والبهجة، فجعلوا مناسباته أعيادا يحتفلون فيها بالتدين الصحيح، ويتواصلون بالطعام والشراب والزينات وفوانيس رمضان.
مصر التى لا نعرفها لا يعلم تلاميذها قيمة العلم، ولا هتاف «تحيا جمهورية مصر العربية» فى طابور الصباح، وأن غرس هذه المبادئ فى النشء منذ نعومة أظافرهم، يعمق فى نفوسهم معنى الوطنية وحب الوطن، فلا يعبث فى عقولهم مخربو الأديان والأوطان، ويهدموا داخلهم فضيلة العشق والانتماء، ولا يغسل عقول شبابها مخربون ويعيدوا ملأها، بأفكار ومعتقدات هى أكثر خطورة من الديناميت والمتفجرات والسيارات المفخخة.
مصر التى لا نعرفها نتابع فيها كل يوم حكايات عن جرائم يشيب لها الولدان، لاتسامها بالعنف والقسوة والسادية والألم البالغ، وتخرج عن حدود الإنسانية والرحمة، ويتفنن المجرم فى ابتكار أساليب تعذيب تنكيل بضحيته، تكشف ظهور نوع جديد يمكن أن نسميه «الإنسان المتوحش»، ولا أريد أن أسرد وقائع وحكايات، حتى لا أزعج الناس فى رمضان والصيام، فالمؤكد أن الجرائم التى تتطور أساليب ارتكابها، تحتاج تشريعات سريعة، لوقف مخاطر كبيرة تواجه المجتمع إذا لم يستيقظ مبكرا.
تغيرت السلوكيات إلى الأسوأ، وانهار التعاطف الإنسانى إلى الدرك الأسفل، وتراجعت القيم والمبادئ، وانتشر الكذب والزيف والخداع، وانفجرت بالوعات التلوث الأخلاقى، ويخيل إلينا أحيانا أن مصر الآن ليست هى مصر التى نعرفها وقرأنا عنها، ونراها فقط فى الأفلام أبيض وأسود.. إننا فى حاجة إلى استعادتها واستردادها، فهذا ليس شعبها الطيب، الذى تجمعه المحبة والسراء والضراء.. وشوارعها ليست شوارعها ومبانيها ليست تلك العشوائيات، وهؤلاء البشر الذين يشوهون صورتها ليسوا أبناءها.
ما الذى حدث وأدى إلى تغير الشخصية المصرية بهذا الشكل، ولماذا يتزاحم الناس حول مصاب صدمته سيارة، لتصويره بالموبايل وهو ينزف ويتألم وليس لإنقاذه و«شيّر»؟ ولماذا لا يهب الشبان للدفاع عن بنت حتتهم لإنقاذها؟ بل هم الذين يتحرشون بها ويخطفونها ويغتصبونها، ولماذا اختفى من حياتنا الرموز ورجل الحكمة، الذى يأمر فيطاع بعدالته وحكمته فى فض الخلافات والمنازعات؟ ولماذا يكره البعض بلدهم أكثر من ألد الأعداء؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة