هذه قاعدة من قواعد التعامل الإنسانى، والتى جاءت فى سياق الحديث عن موقف سجله القرآن لبيان أصناف المعتذرين عن غزوة تبوك وتشير إلى مَن يستحق أن يُعذر ومَن لا يستحق، يقول سبحانه وتعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ونقل فى سبب نزول الآية أن أحد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المخلصين قال للنّبى (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله، إِنى شيخ كبير أعمى وعاجز، وليس لى حتى مَن يأخذ بيدى ليذهب بى إِلى ميدان القتال، فهل أعذر إِذا لم أحضر وأشارك فى الجهاد؟ فسكت النّبى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت الآية وعذرت مثل هؤلاء الأفراد.
والمعنى: «ليس على أهل الأعذار الصحيحة من ضعف أبدان أو مرض أو عدم نفقةٍ، إثمٌ، بشرط لا بد منه، وهو: «إذا نصحوا» أى: بنياتهم وأقوالهم سرا وجهرا، بحيث لم يرجفوا بالناس، ولم يثبطوهم، وهم محسنون فى حالهم هذا، ثم أكد الرجاء بقوله «والله غفور رحيم» (1)
وبما أن القاعدة المقررة عند أكثر أهل العلم هى: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا يعنى توسيع دلالة هذه القاعدة القرآنية التى دل عليها قوله سبحانه: (ما على المحسنين من سبيل).
وهذا يدل على أن الأصل هو سلامة المسلم من أن يلزم بأى تكليف سوى تكليف الشرع، كما أن الآية تدل بعمومها أن الأصل براءة الذمة من إلزام الإنسان بأى شيء فيما بينه وبين الناس حتى يثبت ذلك بأى وسيلة من وسائل الإثبات المعتبرة شرعا.
لقد كانت هذه الآية - وما زالت- دليلا يفزع إليه العلماء فى الاستدلال بها فى أبواب كثيرة فى الفقه، خلاصته يعود إلى أنه «من أحسن على غيره، فى نفسه أو فى ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن- وهو المسىء- كالمفرط، أن عليه الضمان» (2).
وما أحوجنا إلى أن نطبق هذه الآية فى حياتنا عملا بالقاعدة المشهورة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحين يسعى أحد الناس فى محاولة إتقان عمل دعوى بنَّاء، أو اجتماعى مصلح، أو عائلى مثمر، ويبذل فيه جهده، وربما يبذل ماله، ويطلب من غيره أن يساعده ويعينه على العمل فلا يجد أحدا يواسيه أو يساعده، فيمضى وحده مجتهدا مثابرا فينجح العمل، فإذا ظهرت بعض الثغرات وبعض النقص الذى لا يسلم منه عمل البشر لم يقابل بشكر وتقدير لجهده، وإنما يوجه له اللوم والعتاب، أليس هذا من أحق الناس بقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل؟!
وأمثال هذه الصورة تتكرر فى مواقف آخر.. فى البيت، فى المدرسة، فى المؤسسة، وفى الشركة، فما أحوجنا إلى استشعار هذه الآية، وطريقة التعامل مع أوهام أو أخطاء المحسنين.
ولا يعنى هذا أن نترك التنبيه على الأخطاء أو التذكير بمواضع الصواب، وإنما نبين لكن بلطف، وننصح لكن بلين، فلا نضيع جهد المحسنين، ولا نفرط فى أخطاء المخطئين، فحياتنا تحفلُ بمواقف كثيرة يُفْتَحُ فيها باب الإحسان، وتتاح لآخرين أن يحسنوا على غيرهم فيبادروا بتقديم خدمة ما، وأول هؤلاء هم أهل بيت الإنسان: من زوجة أو زوج أو ولد! فمن المؤسف أن يتجانف البعض هداية هذه القاعدة القرآنية، فيلحقوا غيرهم اللوم والعتاب الشديد، مع أنهم محسنون متبرعون، فيساهمون- بذلك- شعروا أم لم يشعروا بإغلاق باب الإحسان أو تضييق دائرته بين العباد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة