لست أدرى من أين يأتى شخص فى عنفوان شبابه بهذا الثبات الذى تظهره خطواته الواثقة نحو بوابات التفتيش ورجال الأمن قبل أن يضغط زر التفجير، ليتحول هو ومن حوله إلى أشلاء، مخلِّفًا ما لا يمكن تضميده أو نسيانه من الآلام والأحزان! ولست أميل إلى التفسير القائل بأن هؤلاء المخدوعين يكونون تحت تأثير مخدر خُدروا به ليذهب خوفهم وترددهم، لأنهم لو كانوا كذلك لتمايلت أجسامهم وتعثرت خطواتهم، وربما ضلوا طريقهم ولم يتذكروا هدفهم، ونظرة فاحصة للجرائم التى نفذها هؤلاء المجرمون تلغى هذه الفرضية، فالمجرم الذى فجَّر كنيسة طنطا تمكن من التسلل والجلوس فى الصفوف الأولى قبل أن يفجِّر نفسه، وزميله الذى فجَّر كنيسة الإسكندرية بعده بسويعات رأينا يقظته بأعيننا من خلال ما رصدته كاميرات المراقبة، حيث ظهر مستجيبًا لتعليمات الأمن بعد أن حاول تفادى بوابة الكشف عن المتفجرات، ثم دخوله عبر البوابة ورجوعه بعد صدور صوتها التحذيرى قبل أن يحول المكان إلى كتلة من اللهب!
ومثلهما من تسلل إلى مقاعد المصلين فى الكنيسة البطرسية بالقاهرة قبل أشهر، ومن سبقهم إلى كنيسة القديسين فى الإسكندرية قبل عدة سنوات، وغير هؤلاء كثير ممن تسلل للمساجد وأكمنة الجيش والشرطة وساحات الميادين والمدارس والمسارح وغيرها فى بقاع شتى من العالم، ولا شك أن هذه التصرفات تصرفات مخطط لها بعناية، وأن منفذيها يقظون، مدركين لما يفعلون تمام اليقظة والإدراك وليسوا مخدرين بعقاقير أو ما شابه.
وغالب الظن أن هذا الثبات والإقدام على ارتكاب هذه الجرائم النكراء ناشئ عن وَهْمِ استعجال الجنة الموعودة وما فيها من حور عين ونعيم مقيم أُعد لمن يحسبون أنفسهم بهذه الأفعال الخسيسة شهداء، تصديقًا لما غرسه أدعياء مجرمون كاذبون فى نفوس هؤلاء الشباب المخدوعين المغرر بهم وما حشوه فى أدمغتهم الفارغة إلا من عوامل الإحباط وانسداد الأفق، فضلًا عن تفشى الثالوث المدمر: الفقر والجهل والمرض!
فيا أيها الشباب المخدوعون المغرر بكم، إن ما تبتغونه ليس شهادة فى سبيل الله كما يزعم المنظِّرون لكم، والدرب الذى يسروه لكم يؤدى بكم لا محالة إلى جهنم وبئس المصير وليس إلى جنات النعيم وأحضان الحور العين! إنكم بما ترتكبونه من جرائم قد خسرتم دنياكم وأخراكم معًا، فأنتم تقتلون أنفسكم مخالفين أمر ربنا: «وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا»، بل إنكم بما جنته أيديكم تختارون وسيلة عذابكم فى نار جهنم خالدين مخلدين فيها أبدًا لقول رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته فى يده يتوجَّأ بها فى بطنه فى نار جهنم خالدًا فيها أبدًا...»، وهذا نص صريح يبين أن الانتحارى الذى يفجِّر نفسه مخلد فى نار جهنم.
وهذه اللحظة التى يفقد حياته فيها كما بدا لنا ليست بالضرورة لحظة عذابه الدنيوى حتى لا يستهين بعض الناس بها، فهى من بدايات الآخرة بالنسبة له، وحسابات الآخرة تختلف عن حساباتنا، يقول الله تعالى: «وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ»، أى إن لحظة التفجير التى مرت أمام أعيننا كالبرق الخاطف التى أوهم المجرمون فاعلها بأنه لن يشعر بألم فيها، لأنه فى زعمهم شهيد، والشهيد يفقد الإحساس بالألم عند أول قطرة من دمه، هذه اللحظة لا يعلم إلا الله تعالى مقدار ألمها ومدته بالنسبة للانتحارى، فقد تمر عليه هذه اللحظة سنين عددًا، وهذا هين بالنسبة لعذابه الدائم فى الآخرة بمجرد انتهاء عذابه الدنيوى بالتفجير مباشرة، فمن مات فقد قامت قيامته، والقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، ولا تنتظر يا من تريد القفز إلى النعيم الدائم الموهوم أن قبرك سيكون روضة من رياض الجنة، فأنت أيها الانتحارى قاتل للبشر جميعًا من غير نظر إلى عدد من قتلت بتفجيرك قلَّ أو كثر، يقول الله تعالى: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»، فإذا كان قتل النفس كافيًا لأن يُعذَّب قاتلها عذابًا لا قِبل له به، فكيف به حين يضاف إلى عذابه بأداة انتحاره عذاب قتل الناس أجمعين بالكيفية التى قتلهم بها تفتيتًا للبدن أو ذبحًا أو حرقًا أو خنقًا أو غير ذلك، مع تكرار العذاب وديمومته، فكلما مات عاد كما كان ليذوق العذاب عن قتله نفسه والناس أجمعين، يقول الله تعالى: «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ»؟!
وإذا كان ما سبق يتعلق بمن فجَّر نفسه ليقتل غيره فى أى زمان ومكان، فما بالنا بمن فعل هذا فى شهر من الأشهر الحرم التى حرم الله فيها قتال مَن يحل قتالهم من الأعداء ما لم يبدؤونا بقتال، وفى مكان للعبادة يتعبَّد فيه أناس لخالقهم عز وجل؟! وأى وسيلة هذه التى استخدمها هؤلاء المجرمون فاستطاعوا بها تغيير كل تلك الحقائق وخداع من فجَّر نفسه وإقناعه بارتكاب هذه الجرائم التى جمع فيها بين قتل النفس انتحارًا وقتل أناس أبرياء وانتهاك حرمة شهر حرام وقدسية مكان للعبادة؟! كيف حولوا تلك الكبائر إلى طاعات تنتهى بفاعلها إلى جنات النعيم ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟!
فيا من تسيرون على درب الهالكين، فكروا مليًّا فيما أنتم قادمون عليه تحقيقًا لمزاعم وأباطيل مَن لا يغنون عنكم من الله شيئًا، هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان وكذبوا على الرحمن وأوهموكم بما لو اعتقدوه هم يقينًا ما آثروكم بالمتفجرات والأحزمة الناسفة وركنوا هم إلى الدنيا الفانية، بل إنهم لو علموا أن ما يخدعونكم به حقٌّ لسارعوا إلى تفجير أنفسهم وانطلقوا إلى ما ساقوكم إليه سوق السيد لعبده والراعى لغنمه، أم ترونهم زهدوا فى النعيم الذى بشروكم به واختاروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة