يحلو لبعض هواة الظهور الإعلامى فى حملة هجومهم على الأزهر ومناهجه حمل بعض كتب لا وجود لها بين أيدى طلابنا اليوم، خاصة بعد تطوير المناهج الشرعية والعربية بأسلوب عرض بسيط ولغة سهلة وموضوعات ملائمة للعصر الحالى دون تجريف للعلم أو تسطيح للعقول. وما يقوم به هؤلاء فى اتهامهم لمناهج الأزهر لا يعدو أن يكون تفسيرًا خاطئًا يتكئون عليه لتبرير أفعال هم على قناعة تامة أن مناهج الأزهر بعيدة عنها كل البعد، أو أنهم يبحثون عن شماعة تعلق عليها أخطاء الآخرين، أو أنهم يريدون بذلك تحقيق مآرب خاصة أخرى!
وهؤلاء فضلًا عن أنهم غير مختصين، فإنهم ليسوا هم أنفسهم المكتشفين لما يأخذونه على مناهج الأزهر، وإنما وضع لهم بعض الخبثاء بعض أسطر تحت بعض الجمل التى يطلقونها كالقذائف فى وجه من يبين حقيقة مناهج الأزهر وبراءتها مما يحاولون إلصاقه بها من الضيوف المشاركين، مع الإمعان فى عدم ترك فرصة للضيف المشارك حتى لا يفسد عليهم الصيد السمين! ولذا تظهر تلك العبارات وكأنها السبب المباشر فيما يرتكب من جرائم إرهابية على خلاف الحقيقة والواقع؛ فمناهج الأزهر تعصم عقول دارسيها من الشذوذ الفكرى إفراطًا أو تفريطًا متى كان دارسها ينتمى إلى بيئة طبيعية وليست لديه توجهات أو انتماءات تغذَّى من مورد خاص ببيئته التى ينتمى إليها. أما هذا الذى يعيش فى أسرة لا تعترف بفكر الأزهر ولا عقيدته وإنما دفعت ببعض أولادها لدراسة مناهج الأزهر للحصول على شهادة تكون بمثابة الرخصة لترويج أفكارهم الخاصة اعتمادًا على ثقة الناس فى علماء الأزهر؛ فلن يتغير وإن درس فى الأزهر طوال عمره، بل سيبقى منتميًا سياسيًّا وفكريًّا لبيئته التى يعيش فى كنفها وترسخ فى وجدانه أن دراسته فى الأزهر مبتغاها الشهادة، أما تكوينه الثقافى والفكرى فمصدره الزاوية أو الجحر الذى يسلم فيه عقله قبل أذنيه لشيخه الغامض!
إن تحميل مناهج الأزهر فاتورة التطرف والغلو وما ينشأ عنهما من عنف وإرهاب ظلم بيِّن ومحض افتراء، فطبيعة مناهج الأزهر التعددية فى جميع مراحل التعليم تنير العقول وتقر الحوار وتقبل الاختلاف، ونظرة عامة على محتوى المقررات الأزهرية بداية من المعاهد الأزهرية إلى كليات الجامعة تؤكد ذلك؛ حيث ترى مناهج اللغة العربية حافلة بالمعارك الفكرية بين الكوفيين والبصريين فى النحو مثلًا، وفى أصول الدين يدرس الطلاب الملل والنحل والعقائد المختلفة مع أنهم ينتمون لأهل السنة ويعتنقون الأشعرية والماتريدية لا غير، وفى التفسير والحديث وغيرهما ما لا يحصى من الأقوال الخلافية التى تعد ثراء فكريًّا يجنيه الدارسون ثقافة تتأصل فى عقولهم، وحدِّث ولا حرج عن خلافيات علماء الأصول والفقه التى يدرسها الطلاب مع ترك الحرية لهم فى اختيار الرأى الراجح من بين أقوال المذاهب المعتمدة ما دام الرأى يستند إلى أدلة نقلية أو عقلية مقبولة، ولا شك أن مناهج تلك طبيعتها يستحيل أن تصنع عقلًا متحجرًا، غير قابل للآخر المختلف فكرًا وثقافة وعقيدة، منتهجًا العنف سلوكًا، مهلكًا لنفسه وغيره!
أما تلك العبارات التى يُقذف بها فى وجوه الناس للتدليل على الربط بين مناهج الأزهر والعنف، فلا تخرج عن أمرين: الأول : أنها لا تدرس أصلًا، وبقاؤها فى بعض الكتب فى مرحلة ما هو من باب الأمانة العلمية التى تلزمنا عند عرض أو تحقيق كتاب تراثى بالحفاظ على متنه كما هو، حتى إن بعض اتجاهات التحقيق ترى عدم التدخل لتصحيح الخطأ الإملائى أو النحوى فى المتن، وإنما يثبت كما هو ويصحَّح فى الهامش وليس فى المتن، وأصحاب هذا الاتجاه يخشون خطأ الباحث فى تقديره لما يظن أنه خطأ، فقواعد الإملاء مثلًا مرت بمراحل، وقد تكون الكلمة مظنة الخطأ من إحدى مراحلها، فظنها خطأ وهى ليست كذلك، أو تكون الكلمة على وجه نحوى بعيد أو غير شائع فظنها خطأ وهى ليست كذلك، ولذا يرون ترك المتن بما فيه خشية الإضرار من حيث إرادة الإصلاح، فضلًا عن أن المتن بما فيه شاهد على علم المؤلف وثقافته وفكره. ويرى آخرون تصحيح ما يُتيقن من خطئه مع الإشارة إلى ذلك فى الهامش ليحكم أهل الاختصاص على صوابه أو خطئه، لكن الجميع مجمعون على أنه ليس من حق أحد حذف كلمة واحدة من كتاب تراثى؛ لأن ذلك يعد خيانة علمية، ولذلك فالعبارات والمسائل التى تجاوزت زمانها ولم تعد ملائمة لهذا الزمان لا تدرس أصلاً، ولذا يستعجب الأزهريون الذين درسوا تلك المناهج من هذه العبارات التى ربما لم يسمعوا بها قبل تفجيرها فى وجوهنا. الأمر الثانى: أن هذه العبارات مجتزأة من سياقها التاريخى أو الموضوعى، وهذا الاجتزاء يرجع إلى جهل المجتزئ أو سوء نيته، ولو عُرضت فى سياقها لتبين للناس عظمتها وحكمة المشرع منها، ومن ذلك نصوص القتال التى وردت جميعها لرد العدوان لا لشنه.
والعجيب أن من يطرحون هذا الطرح المرتبط فى الغالب بحادث إرهابى ينفصلون عن واقع الحدث ومنطقيته؛ فمع أن مرتكب الجريمة لا تكون له أى علاقة بالأزهر ومناهجه، تجد هؤلاء المدعين يدَّعون أن مناهج الأزهر هى التى تقف خلف ما أحدثه هذا المجرم، وكأن الدارسين فى المدارس والجامعات المختلفة بل حتى أصحاب الحرف والصناعات الذين أعلنت الأجهزة الأمنية فى شتى بقاع العالم تورطهم فى جرائم التطرف والإرهاب يتنفسون مناهج الأزهر وهى عندهم مكون إضافى لمكونات الهواء المعروفة! والغريب أنك لا تجد لكلمة الأزهر أو مشتقاتها أى ذكر عند استعراض هؤلاء «المحللين الخبراء» رحلة حياة الانتحارى الذى تسبب فى الكارثة ودراساته ووظيفته، فإذا ما فرغوا انهالوا قدحًا على الأزهر ومناهجه، وربما بلغ الشطط ببعضهم إلى حد اتهام أزهرى بتنفيذ تلك الهجمات الإرهابية، مع أنه لم يثبت فى التاريخ أن أزهريًّا فجَّر نفسه! وعلى الرغم من كل ذلك، لا تُتهم تلك المدارس والجامعات التى تخرج فيها هؤلاء المجرمون والمناهج المقررة فيها بهذه الاتهامات الداحضة التى تكال للأزهر ومناهجه فى غياب تام للإنصاف فى العرض والمنطقية فى التناول .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة