كفالة الغير فى الأصل عمل من أعمال البر والقربات التى يتقرب بها العبد لربه عز وجل، فإذا كان الكافل للأيتام ونحوهم جهة حكومية أو هيئة تخصص الدولة للعاملين فيها أجورًا، فلا يجوز بحال أخذ شىء من الأموال التى يديرونها لصالح الأيتام ومن فى حكمهم، وإلا كان من أكل أموالهم بالباطل.
يقول الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا»، أما إن كان الكافل شخصًا ميسور الحال فليتعفف عن أموال اليتامى وليجعل عمله تطوعًا راجيًا به الأجر والثواب من الله تعالى، لقوله سبحانه: «وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ»، وأما الفقير الذى يتولى الوصاية أو الولاية على يتيم له مال ورثه عن أبيه أو غيره من قرابته، فإنه يجوز له إن كان فى حاجة شديدة أن يأخذ من هذا المال مقدارًا يسيرًا يسد به حاجته بلا خلاف بين العلماء، وذلك لقوله تعالى: «وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ».
لكنهم اختلفوا حول حكم رد هذا القدر الذى أُخذ من مال اليتيم فى حال اليسر بعد ذلك، حيث يرى بعضهم أن المال المأخوذ بمثابة القرض، وهو دين فى ذمة الآخذ يلزمه رده حين يوسر، فإن بقى فقيرًا فعليه أن يستسمح اليتيم عند بلوغه ليحله من هذا الدين، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: «فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ»، وقوله سبحانه: «وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ»، فالمراد بـ«المعروف» عندهم القرض، بدليل وجوب الدفع للمال المذكور بعده والإشهاد عليه.
ومع أن الإشهاد على رد الديون ليس شرطًا لبراءة ذمة المدين، فهى تبرأ بمجرد سداد الدين، لكنه طُلب هنا نفيًا للتهمة، لأن المال تحت يد من أكل منه. ويرى بعضهم الآخر، وهو الصحيح عند الشافعية، أن من أكل بالمعروف لا يلزمه الرد وإن أيسر، وذلك لأن الآية التى أباحت الأكل بالمعروف لم تشترط ردًّا، ولِما روى أن رجلًا أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: إنى فقير، ليس لى شىء، ولى يتيم. فقال له النبى: «كُل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادِر ولا متأثِّل»، أى لا تأخذ فوق حاجتك، ولا تستعجل الأخذ قبل الحاجة أو قبل بلوغ اليتيم وكبره، ولا تجمع المال وتتخذه رأس مال لك تتاجر فيه.
والحقيقة أن ما يؤخذ من مال اليتيم يحتاج إلى مزيد تفصيل، فإن كان ما أخذه الوصى أو الولى على اليتيم مبلغًا يزيد على أعباء ما يقوم به من رعاية اليتيم واستثمار ماله فى التجارة ونحوها، فهذا قرض بلا خلاف، وهو دين فى رقبته، لأنه لا وجه لإباحته له، ولأن هذا المال الذى أخذه قد يفقر اليتيم لكثرته، وما جعل الشرع الوصاية أو الولاية على الأيتام ومن فى حكمهم لإفقارهم وإنما لحفظ أموالهم وتنميتها، يقول النبى- صلى الله عليه وسلم: «اتجروا فى مال اليتامى لا تأكلها الصدقة».
أما إن كان ما أخذه الوصى قدرًا يسيرًا يسد به جوعه ويستر به عورته ولا يزيد عن أجرة المثل التى تستحق على مثل الأعمال التى يتحملها فى رعايته لليتيم واستثمار ماله، فلا يلزمه عندئذ رده، لأنه بمثابة الأجرة على العمل، ولا سيما إن كان يتاجر لليتيم فى ماله.
ومن ثم، يجاب عن رأى القائلين برد الجزء المأخوذ من مال اليتيم، بأن قوله تعالى: «بِالْمَعْرُوفِ»، ليس صريحًا فى القرض، بل الأقرب أن المراد به الحذر والرفق بالمال، فلا يؤخذ منه أكثر من مقدار ما تنقطع به الحاجة الشديدة، فكلمة «المعروف» لا تعنى أكثر من اللطف والرفق، ويؤيد ذلك قوله تعالى: «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ». وأما استدلالهم بقوله تعالى: «فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا»، فليس المراد به ما أخذه الوصى أو الولى من مال اليتيم، بل المقصود به الأموال التى تحت يد الوصى أو الولى كلها، لأن الإشهاد يفيد فى معرفة رفع الولى أو الوصى يده عن مال اليتيم كله، ونقل التصرف فى هذه الأموال إلى اليتيم، وإبراء ذمة الوصى برد الأمانة التى يعلم الناس أنها تحت يده منذ تولى أمر اليتيم إلى صاحبها الذى أصبح قادرًا على تولى أمر نفسه وماله، بدليل قوله تعالى فى صدر الآية: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ».
أما ما يأخذه الوصى من مال اليتيم لسد حاجته، فهو غير معلوم للناس ولا يحتاج إلى إشهاد على رده، لأنه فى الأصل غير متهم فى شأنه، فضلًا عن أنه قد يتكرر ويصعب حصره، فقد يكون بعض لقيمات أو نزرًا يسيرًا من المال، والإشهاد على رد هذا المال الذى قد يكون على مراحل أيضًا من الصعوبة بمكان، بخلاف الإشهاد على رد مال اليتيم الذى تحت يد الوصى كاملا، حيث يكون مرة واحدة بعد بلوغ اليتيم ورشده.
وعليه، فإن الأولى والأحرى بالوصى الغنى أن يستعفف عن مال اليتيم ولا يأخذ منه شيئًا، أما الفقير فله أن يأخذ من مال اليتيم ما يضطر إليه وفى أضيق الحدود، ولا يلزمه رده وإن أيسر، فإن رده فأحسن.
أما إن أخذ مالًا يعد عرفًا يسيرًا لكنه يزيد عن مقابل ما يؤديه من عمل فهو قرض يلزمه رده.
وأما الجهات والجمعيات التى ترعى الأيتام ونحوهم وتكفلهم ماليًّا من خلال تبرعات المحسنين، فلا يجوز لها اقتطاع أى جزء من المال المتبرع به لكفالة الأيتام إن كانت الدولة توفر رواتب لمن يقومون بهذه الأعمال، فإن لم تكن الدولة توفر رواتب للعاملين بتلك الجهات والجمعيات، فيجوز لها عندئذ اقتطاع جزء من الأموال التى تديرها بمقدار أجور العاملين بها والمصروفات الإدارية الأخرى دون زيادة.
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
أموال اليتيم
وماذا عن نهب أموال غير اليتيم وابتزازه