- مواقع التواصل وارتباك سوق الإعلانات أضعفت المواقف المالية للمؤسسات "الورق" هو الضحية الأقرب
كان السؤال فلسفيًا، ثم أصبح واقعا تفرضه مخاوف المهنة: "هل ينتهى عصر الصحف الورقية فى العالم.. ومتى؟
قبل الإجابة يجب أن ننوه إلى ضرورة افتراض الصراحة والفهم فيمن يقومون على هذه الصناعة "صناعة الصحف" للتفرقة بين الاستسلام للهزيمة، والاعتراف بالأخطاء.. الهزيمة قد تفرضها ظروف قدرية طارئة يضعف الإنسان أمامها، بينما الأخطاء فواتير واجبة الدفع، بالتصحيح أحيانًا، والاعتراف بها قبل كل شىء.
الإجابة عن السؤال السابق تقول أنه لا إجابة لدى البشر فى أمر يتعلق بمستقبل صناعة ما، لأنهم ببساطة لا يعلمون الغيب، وما فعلته "اليوم السابع" فى نسختها الورقية، تجربة تستحق التأمل وابتكار تخالطه التضحيات، ليس لأنها حاولت تجديد الشكل، بل لأنها أيضا اقتربت من الإجابة المستحيلة عن السؤال، واختارت مضمونًا "مجلاتيًا" فى ثوب يومى، بمعنى أنها تقدم الخبر وما وراءه، وما قد يلحق به من تبعات، وهذه لو تعلمون طريقة مرهقة للحفاظ على زبائنك دون أن تخسر صحتك أو تفقد أعصابك.
ففى عشر سنوات مضت، أو أقل، فقدت فيها صناعة الصحف أعصابها حتى أنها خسرت عددا من الإصدارات الورقية المهمة: السفير اللبنانية، الإندبندنت البريطانية، وأكبر صحيفتين فى اليونان، ومن قبلهم "نيوز ويك"، لكنها عادت مرة أخرى، ومع كل مطبوعة تندثر يبدأ الصراخ عن مستقبل الصحف ثم يهدأ لأن: "عندنا المواقع الإلكترونية ستعوض ما مضى" هكذا كان التبرير المريح، لكنه لا يطرح حلولًا تراعى مزاج فئة غير قليلة من القراء الذين لم يتمكنوا من التغلب على إدمان ملمس الورق "نقود أو صحف"، كذلك يتجاهل هذا التبرير آلاف العاملين الذين تعتمد أرزاقهم على الصحف الورقية. لكن ليس كل من أوقف إصداره المطبوع يتساوى فى تجاهل المزاج وأكل العيش، فالأوساط الصحفية الغربية تدوى كالنحل بحثا عن حلول، على عكس بعض الإصدارات العربية التى تنشغل بإيجاد أسرع طريقة لبيع الأصول، وأفضل مبرر لتسريح العاملين.
تسريح العاملين؟.. نعم هذه قضية تترك ألما ظاهريًا فى إنسانيتنا وأخلاقنا، بينما باطنها يحمل دلالات أعمق: الفشل الاقتصادى، العجز عن النمو، الفقر فى الابتكار، وأيضا تتضمن ضعفًا فى الإيمان بهذه الصنعة التى كانت على مدار 150 عاما واحدة من أعظم إنجازات عصر التدوين، ستقول لى أن الأمر يتعلق بالإعلانات، حسنا، الإعلانات هى الأخرى صنعة تتأثر بالموضة واتجاهات الرأى العام ومزاج المواطنين "الزبائن"، لكن من الذى يخلق الرأى العام، طيب.. من الذى يشكل مزاج المواطنين، وفى النهاية من الذى لم يطور صنعته لتماشى الموضة وفضل على ذلك أن يترك سيارته القديمة تحترق، بينما يجلس متكئًا ليحلم بشراء سيارة جديدة؟.. إنهم صانعو الصحف فى العالم العربى.
تلك السنوات العشر الماضية مرت كالطيف على صانعى الصحف وأبناء المهنة، ولما انتبهوا للحقيقة، كانوا كأهل الكهف لا يدرون كم لبثوا فى الظلام، لكن فى الخارج تفاصيل كثيرة قد تغيرت، جوجل ومواقع التواصل تمددوا كوحش عملاق لا يَرى سوى انعكاس ظله على بقية الكائنات الصغيرة، وحش يزاحم الصحف والصحفيين فى مهنتهم، وأقواتهم ، وإعلاناتهم، وخلق لنفسه آلهة و دراويشًا ومريدين وكتائب، فكان أول ما التهمه الوحش هو بعض الإصدارات الورقية لأنها فقدت جزءا من رصيدها لصالح المواقع الإخبارية.
نحن إذن أمام صنعة تأكل نفسها وتقاوم التطور بالاختباء خلف "عادات القراء" وهى تحسب أنها تهرب للأمام، لكن المعلنين لأنهم يؤمنون بالأرقام فقط انتبهوا لذلك وبدءوا ينفقون أموالهم على الكيانات الجديدة لأنها الأرخص والأكثر انتشارًا، وتترك بعض الفتات للصحف الورقية، هذا ما عرفته "اليوم السابع" وعايشته من أول لحظة، وجربت عنصرا بعد عنصر، حتى انضبطت معادلتها وخرجت لنا بهذا الشكل الجديد، فأثبتت أن فى عمر الورق بقية، ويمكنه أيضا أن يجنى أرباحًا، فقط إذا قاوم الترهل بخلطة أكثر تطورًا وشبابًا.
قد أبدو منحازًا لـ"اليوم السابع" فى امتداح تجربة تطوير العدد الورقى، وهو انحياز لا أنكره ولا أنكر عليك عدم تقبله، لكن دعنى أحكى لك قصة صغيرة: فى يناير من عام 2008 انطلقت اليوم السابع موقعا إليكترونيًا، بروح متلهفة لصدور الجريدة الورقية، وبعد أشهر من صدروها كنسخة ورقية أسبوعية، نبت فى صدرونا نحن سؤال على استحياء، هل سيكون منطقيا أن تتحول لصحيفة يومية خاصة وأن الموقع الإليكترونى ينمو أسرع من المتوقع، وظل السؤال دفينًا إلى أن جاءت لحظة الحقيقة بقرار تحويلها لنسخة يومية بجوار الإصدار الإليكترونى، وتحول السؤال إلى تحديًا للبحث عن الإجابة، وكلما تعاظمت الاستفهامات، نبتت الأفكار والحلول والإجابات.
هذا الانحياز أيضا لا تحكمه المشاعر فقط، لأن التطوير الجديد الذى فرضته اليوم السابع على الشكل والمضمون، وألزمت به طاقمها التحريرى، رسالة أمل وقبلة شفاء على جبين مريض يتمنى له الجميع الموت ليرتاح، فالصحف الورقية فى مصر إما خاصة تعيش على الإعلانات والتمويل وبعض الحيل، أو حكومية تعيش على الديون، لكن كلاهما يجب أن يعيش فترة أطول لأن الاستسلام لهزيمة الموضة يعنى فتح الباب لهزائم قادمة تهدد وجود الصحافة نفسها كمهنة ورسالة، وهو ما تتمناه مواقع التواصل الاجتماعى لها لكى تصبح المتحكمة فى الأرباح والعقول دون رادع.. تجربة اليوم السابع مهمة وخطيرة لأنها أمل ومسئولية وخطوة تثبت أن التجارب الناجحة تموت أولا بغياب الإرادة والرغبة قبل أن تهلك بخروج الروح.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة