الإرهاب هو ذلك الفكر الذى يقتنع من يعتنقه بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة دون سواه، تلك الحقيقة التى ترى أن الآخر هو الأدنى والأضعف والمخطئ، الذى يجب التخلص منه، ليس بالحوار وبالفكر والفكر الآخر، وليس بطرح الرأى فى مواجهة الرأى، ولكن بالتخلص من هذا الآخر، سواء كان هذا الآخر دينيًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا. فالإرهاب هو فكر وممارسة لا تقبل غير ذاتها، ولا تعرف غير نفسها، وهذا ما نراه الآن، ليس فى مصر والمنطقة وحدها، ولكن فى العالم بأسره، بل نرى أن الإرهاب وعملياته قد أخذت كثيرًا من الأساليب المتغيرة والمتطورة، حتى تتخطى كل عمليات وخطط الأمن الذى يحاول أن يبذل أقصى جهد لمواجهة هذا الإرهاب.
نعم نرى تلك المواجهة الأمنية فى سيناء عن طريق القوات المسلحة والشرطة، ونشاهد تلك الضربة القاتلة التى وجهت إلى الإرهاب فى جبل الحلال، ولكن وبعد أحداث الأحد الدامى يوم 9/4/2017، التى تمت فى طنطا والإسكندرية، قد وجدنا استدراكًا لهذا الخطر، القرار الخاص بفرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، مع تشكيل الهيئة العليا لمواجهة الإرهاب والتطرف، تلك الهيئة التى يجب أن تتخطى كل الحواجز والمعوقات الموروثة، التى تحول دون تكامل وتواصل كل الإمكانيات والجهات والمؤسسات لمواجهة هذا الإرهاب، ذلك لأن المواجهة الأمنية بالرغم من أهميتها الآنية، فإنها ليست وحدها تمثل كل المواجهة، حيث إن هذه المواجهة لابد أن تكون سياسية، وبمنهج ورؤية متكاملة، ليس للدولة ومؤسساتها فقط، ولكن لكل مواطن مصرى فى عمله ومنزله وطوال وقته.. نعم هذه المواجهة لابد أن تتكامل فيها أدوار التعليم منذ الصغر، والإعلام وما يقدمه لتلك المواجهة، ليس بالطريق المباشر، ولكن بكل الطرق الإعلامية العلمية المتطورة.
نعم هناك دور للمؤسسات الدينية، إسلامية ومسيحية، فى عملية تصحيح الفكر الدينى الذى يدعم ويدعو إلى قبول الآخر بعد اختلاف الدين الطبيعى، وهنا يأتى دور الثقافة والفن كأهم الأدوار فى مواجهة الإرهاب، خاصة أن هذا الدور متعدد الأساليب فى شتى المجالات الثقافية والفنية، التى تشكل الوجدان، وتؤثر فى الفكر، وتغذى العقل، وترتقى بالعواطف، الشىء الذى يؤسس لترسيخ قيم إنسانية راقية تقبل الآخر. ومع الأهمية القصوى لدور وزارة الثقافة بكل هيئاتها، خاصة ما يسمى بقصور الثقافة المنتشرة فى كل أرجاء مصر، ذلك الدور الذى لا نرى له وجودًا حقيقيًا ومؤثرًا حتى الآن، نرى أن العمل الثقافى الأهلى لابد أن يكون له دور مؤثر فى تلك المواجهة، بالتشارك والتوافق مع وزارة الثقافة، ولكن للأسف لم نرَ ذلك التشارك ولا هذا التوافق فى غير بعض هيئات الوزارة التى ينسب دورها لإيمان رئيسها بهذا الدور.
وهنا يحضرنا بشدة دور مؤسسة سعد زغلول للفنون والحرف التراثية، تلك المؤسسة فى أسيوط التى أقامت مهرجانها السابع للفنون من 12 إلى 14/4/2017، تحت عنوان «التراث الشفاهى العربى»، وكان شخصية المهرجان «زكريا الحجاوى»، وكان هذا المهرجان وبحق إضافة غير مسبوقة وغير متكررة بهذا الحشد فى الصعيد تحديدًا، فقد استضاف المهرجان كبار الفنانين التشكيليين فى مصر والمنطقة العربية، وأقيم معرض من إنتاج تلك النخبة الفنية، افتتحه محافظ أسيوط بمرافقة مدير جامعة أسيوط، داخل متحف سعد زغلول، مع نخبة من فنانات وفنانى مصر فى السينما والمسرح والتليفزيون، ونخبة من السياسيين والصحفيين والمطربين والموسيقيين، منهم الفنانة وفاء الحكيم، والفنان طارق الدسوقى، والفنان أحمد الشافعى، والصحفى حمدى حمادة، والناقد المسرحى محمد الروبى، والملحن كريم عرفة، حيث تم الافتتاح وتكريم بعض الرموز الفنية والعلمية، مثل الموسيقار الكبير هانى شنودة، وشيخ المعماريين العرب الدكتور عصام صفى الدين، والأستاذ أسامة عفيفى، والمايسترو شريف محيى الدين، وتمت إقامة حفلين فنيين مساء 12 و13 /4/2017 مع أمسيات شعرية للشاعر الكبير شوقى حجاب، إلى جانب عقد ندوات ثقافية حول التراث الشفاهى العربى، بدأت بندوة حول حكايات وأمثال الفن والتراث الشعبى للأديب درويش الأسيوطى، والثانية بعنوان تراث الشعر العربى للشاعر أحمد عنتر مصطفى، والثالثة السيرة الهلالية للمخرج الكبير عبدالرحمن الشافعى الذى أخرج عرضًا للسيرة الهلالية، تأليف يسرى الجندى، وكانت الندوة الرابعة تحت عنوان «أحمد برين»، للكاتب سمير غريب، وكانت حول هذا المطرب والمنشد المصرى الذى اهتم به الغرب، لما كان له من موهبة صوتية متفردة، أما الندوة الخامسة فكانت بعنوان «زكريا الحجاوى»، وقد أبحر فيها الكاتب أسامة عفيفى فى تاريخ ودور وإنتاج وآثار زكريا الحجاوى، كأحد أهم من اهتم بالتراث الشعبى فى إنتاج غزير، سواء فى المسلسلات أو السهرات الإذاعية أو الملاحم. وكانت الندوة الأخيرة للفنان المبدع هانى شنودة حول لغة الموسيقى والتراث المصرى، والتى أبدع من خلالها فى عرض ممتع للفن الموسيقى، وكيف يمكن قراءة تلك اللغة الإنسانية التى تذيب الحواجز بين البشر، بل هى أهم أداة تواصل بشرية بالرغم من أى خلافات أخرى.
وقد ضم المهرجان على مدى أيامه الثلاثة جمعًا من أبناء أسيوط ومراكزها، مع أعضاء صالون القوصية الثقافى، مع العلم وكعادة كل مهرجان كان دور الفنان التشكيلى محمد كمال الذى يعقد ورشة رسم للأطفال من ثلاث سنوات، هؤلاء الأطفال الذين أبدعوا ثلاثين لوحة بالغة الروعة، الشىء الذى يؤكد أن مصر بالفعل ولّادة، وأن الاهتمام بالطفل هو الطريق الأمثل لتربية جيل مصرى وطنى يرفض الإرهاب، ويقبل الآخر، وهنا لابد أن نذكر حضور الدكتور أحمد عواض، رئيس قطاع صندوق التنمية الثقافية، الذى حضر الافتتاح بالرغم من مشاغله.
هذا هو دور العمل الأهلى، وهذا هو دور مؤسسة سعد زغلول المميزة، والتى تقوم بدورها الثقافى والفنى والتنويرى الذى نحن فى أمسّ الاحتياج إليه، لمواجهة تلك الهجمة التتارية الإرهابية، فالفن والثقافة هما رأس الحربة فى المعركة ضد الإرهاب، فالأرض التى لا نزرعها بالحب يزرعونها بالكراهية، والعقول التى لا نعمرها بالفن يشحنونها بالأحزمة الناسفة.. بتغيب الفن يوجد الإرهاب والتطرف والقبح، فتنغلق العقول، وتموت القلوب، ويجمد الفكر، فالثقافة بمثابة الأمن القومى المصرى.. حفظ الله مصر وشعبها العظيم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة