أيا كانت نتائج انتخابات اليونسكو التى جرت، أمس، لكن تبقى هناك مجموعة من الحقائق التى تحتاج منا دراسة متأنية، خاصة أن هذه الانتخابات كشفت لنا مجموعة من الحقائق المهمة التى لا يجب أن تغيب عن أعيننا مستقبلا.
أول شىء، أن سلاح المال أصبح قويا وله اليد الطولى، وقادرا على شراء الذمم والضمائر حتى فى المنظمة المعنية بنشر القيم الثقافية والحضارية، التى كان يجب لها أن تتلوث بهذا السلاح مطلقا، بل تكون مناهضة له، لكن للأسف أجادت قطر استخدام هذا السلاح فى الانتخابات، واستطاعت من خلال أموالها الحرام أن تشترى بعض ضعاف النفوس واللاهثين خلف المال، وباعوا كل شىء لديهم، وظهر ذلك على سبيل المثال، حينما خالف عدد من مندوبى الدول الأعضاء بالمجلس التنفيذى التعليمات الصريحة والمباشرة الواردة لهم من عواصمهم بدعم المرشحة المصرية مشيرة خطاب، لكنهم لم يستطيعوا الصمود أمام المال القطرى، ومنحوا أصواتهم لمرشح الدوحة، مستغلين فى ذلك سرية التصويت التى تمكنهم من المناورة، لكن المفاجأة التى كانت فى انتظار هؤلاء المندوبين أن مصر لديها قائمة صحيحة بالدول التى صوتت لها والأخرى التى لم تلتزم بالوعود، وخالفوا حتى الإجماع الأفريقى الذى اعتمد مشيرة خطاب كمرشحة للقارة الأفريقية، لكن مندوبى عدد ليس بقليل من الدول الأفريقية البالغ عددهم 17 دولة عضو بالمكتب التنفيذى خذلوا الموقف الأفريقى، وانحازوا للإغراءات المالية.
الحقيقة الثانية، أن فكرة الإؤجماع الأفريقى بحاجة إلى مراجعة من الدولة المصرية، فمصر من أكثر الدول التزاما بالقرارات الصادرة عن القمم الأفريقية، خاصة فى مسألة الترشيحات الدولية، وظهر ذلك فى انتخاب الإثيوبى تواضروس أدهانون لمنصب مدير عام منظمة الصحة العالمية، فقد كانت مصر أكبر داعم لهذا الترشيح فى الأوساط الدولية، لكن أن تخرج دول أفريقية عن الإجماع القارى وتصوت لمرشحين آخرين فهذا يُستدعى وقفة جادة من الدبلوماسية المصرية مع هذه الدول، والحديث بقوة مع مفوضية الاتخاد الأفريقى فى هذا الشأن، خاصة أن رئيس المفوضية موسى فَقِيه كان موجودا فى باريس، وشاهد بنفسه كيف غيرت الدول الأفريقية مواقفها، وكان أكثر الحضور استغرابا مما حدث، مما جعله يتحدث مع وزير خارجية دولة أفريقية بلهجة قاسية، ويقول له: إن ما يحدث فى اليونسكو يبعث برسالة للمجتمع الدولى أننا بالفعل فاسدون.
أعتقد أن الدبلوماسية المصرية أن تبدأ من الآن فتح هذا الموضوع مع الأفارقة، استعدادا لطرحه للنقاش العلنى على القمة الأفريقية التى ستجرى بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا فى يناير المقبل، لأن ما حدث يؤكد وجود خلل كبير ربما يكون بداية النهاية لفكرة الاتحاد الأفريقى والالتزام القارى، الذى كان فى الماضى محل احترام المجتمع الدولى، لكنه الآن تم اختراقه بالأموال القطرية.
الحقيقة الثالثة أن مصر عليها أن تعيد موقفها تجاه الدول العربية التى اتخذت موقفا مضادا لها فى هذه الانتخابات، وأذكر هنا تحديدا ثلاث دول، وهى السودان وسلطنة عمان ولبنان، فالدول الثلاث كان واضحا منذ البداية أنها لم تكن مع مصر، رغم التصريحات والوعود السابقة لمسؤوليها، لكن فى وقت الانتخابات تبدلت المواقف سريعا، وكان مستغربا بشكل كبير موقف دولة مثل السودان التى تربطها بمصر علاقات تاريخية واستراتيجية قوية، لكنها للأسف الشديد اختارت الوقوف إلى صف قطر، ربنا لأسباب مالية أو أخرى تتعلق برغبة الخرطوم فى الانتقام من مصر لأسباب لا نعلمها، وقد يكون مفهوما ألا تصوت لبنان لمصر فى الجوالات الأولى لوجود مرشحة تحمل الجنسية اللبنانية، وبالتالى فهى الأولى بالصوت اللبنانى، لكن بعد انسحاب فيرا الخورى قبل الجولة الرابعة، كان مفاجئا للجميع ألا يذهب الصوت اللبنانى لمصر، واختيار دولة أخرى.
والأكثر استغرابا بالنسبة لى على المستوى الشخصى، موقف مندوب دولة اليمن باليونسكو الدكتور أحمد الصياد، فهو يمثل دولة عانت ولا تزال تعانى من التدخلات القطرية المريبة فى الداخل اليمنى، من خلال دعم ميليشيا الحوثيين، ورغم تأكيد الحكومة اليمنية أنها أصدرت تعليمات صريحة لمندوبها بالوقوف خلف المرشحة المصرية، فإن الصياد كان موقفه مثيرا للكثير من علامات الاستفهام، نعم اليمن ليست عضوا بالمكتب التنفيذى للمنظمة، لكن الصياد كان ضيفا دائما على الوفد القطرى، وكان يساعدهم فى الاتفاق مع العديد من مندوبى الدول الأعضاء بالمكتب التنفيذى، ولا يقلل من هذه الحقيقة صدور بيان من الخارجية اليمنية يحاول تصوير الأمر بخلاف الحقيقة، لأن تحركات الصياد كانت واضحة للجميع، وأعتقد أن الخارجية اليمنية ستراجع نفسها سريعا، وستعيد تقييم موقف مندوبها باليونسكو، خاصة أنه وضع الدولة اليمنية فى موقف محرج أمام مصر وبقية دول الرباعى العربى الداعى إلى مكافحة الإرهاب المدعوم من قطر.
تبقى حقيقة أخرى مهمة من وجه نظرى، وهى تتعلق بمصر وأدائها فى الانتخابات الذى كان متوافقا مع السياسة المصرية القائمة على التعامل بشرف مع الجميع، فرغم كل ما رأيناه من استخدام لسلاح المال، ومؤامرات وترتيبات سياسية تجرى من خلف الستار، لكن ظل الوفد المصرى، بقيادة وزير الخارجية سامح شكرى، على موقفه بعدم اللجوء للأساليب «القذرة»، لأن مصر أقوى من أن تلجأ لها، حتى وإن كانت النتيجة خسارة المنصب، لأن المطلوب ليس المنصب فى حد ذاته، وإنما التأكيد على الرسالة المصرية بأننا نتعامل بشرف مع الجميع دون استثناء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة