أصرت هذه المرة على الموت فماتت، وكان وجع المرض أشد من تمسكها بالحياة، وللمرة الأولى خرجت معى ولم تعد، وتركتنى أرجع وحدى لبيتها، تاركة فى كل ركن بقايا ذكريات جميلة عمرها أكثر من ثلاثين عاما، هى عمر زواجنا، تمر أمامى كحلم جميل، صحوت منه فلم أجد بجوارى «ندى»، حبيبة العمر والقلب والروح.
كانت تسرنى بعينيها الملونتين من خليط الأزرق والأخضر والرمادى، وتشرح صدرى بشفتيها المعطرة دائما بترتيل القرآن، حتى وهى تخرج من غرف العمليات قبل الإفاقة، كانت تهمس بآيات الذكر الحكيم، فتعود إلى الحياة، كم مرة سلمت نفسها راضية مرضية للبنج والتخدير وتدخل الأطباء؟ لا أذكر، ولكن ليس أقل من ثلاثين أو أربعين مرة، فى رحلة عذابها مع المرض التى استمرت 20 سنة.
قالت قبل موتها بلحظات: «كرم.. أنا تعبت وتعبتك معايا، الظاهر لازم أموت عشان ترتاح إنت والعيال»، صرخت: «اوعى تقولى كده، سعادتنا فى خدمتك ووجودك جنبنا بالدنيا»، وكانت فى كل مرة تستجيب وتوافق، إلا المرة الأخيرة اختارت طريقا آخر، ملفوفة بقماش أبيض ورائحة المسك والورد، نزلت بجوارها القبر، وأقسم بربى أنه كان مضيئا بنور لم أره من قبل، ركعت لأقبل قدميها وأمسح رأسها وأبللها بدموعى فى لحظة الوداع الأخيرة، وأعاهدها أن أكون لأولادى أما وأبا، وألا نفعل أى شىء كان يضايقها، وأن نزورها ونستشيرها، وأحكى لها همومى وأوجاعى، كما كنت أفعل دائما، وآخذ منها النصح والمشورة.
ورحلت حبيبة العمر بجسدها وافترقت الأجساد، ولكن روحها معنا ولم تتركنا، وترعانى أنا وأولادها، وتمنحنا الصبر والسكينة والسلوان، لا يملأ فراغها إلا عشرتها الطيبة، وحنانها الذى كان يغطينا ويزيد، نستلهم من حياتها التى عاشتها معنا حياتنا التى نعيشها بدونها، وأعلق على الجدران صورة كبيرة، بوجهها الملائكى وابتسامتها الوديعة، بجوار باب البيت الرئيسى، وأحييها فى الخروج والدخول، «السلام عليكم حبيبتى»، كما كنت أفعل دائما.
«ندى» زوجتى وأمى وابنتى وحبيبتى.. ما أحلى عشرتها وأطيب ذكراها، أحبت الحياة رغم عمرها القصير، ولن تتركنا وحدنا حتى بعد الرحيل، صحيح أن الفراق صعب ومؤلم وموجع، ولكن حين يجد الإنسان فى ذكريات حبيبته أشياء جميلة، سيقول لها: «شكرا يا حبيبة العمر، إلى أن نلتقى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة