يحلو لكثير من الناس الانشغال بقضية التكفير، غير مدركين خطورة الأمر وما يترتب عليه من ضرر يلحق بعقيدتهم جراء الإقدام عليه، مع أنهم لم يكلَّفوا به ولن يحاسبوا على ترك الخوض فيه، بل الخطر العظيم يكمن فى خوض غماره وإصدار أحكام الكفر على الآخرين. ويعتب بعضهم على الأزهر الشريف وينتقده آخرون لعدم تكفيره لجماعات إرهابية زلزلت أمن المجتمعات ونشرت الفزع بين الناس، وفى مقدمتها تنظيم داعش المجرم الذى عاث فى الأرض فسادًا وتجاوز أفعال عتاة المجرمين بمراحل يصعب حصرها، والحقيقة أن الأزهر الشريف لا يصدر الأحكام الشرعية إرضاء للأهواء أو دغدغة للمشاعر، ولكنه بصفته مؤسسة علمية فى الأساس ينطلق فى تناوله للقضايا من منطلقات علمية مستنبطًا الرأى الشرعى فيها.
وبتتبع نصوص الشرع واجتهادات سلفنا الصالح نجد أن هناك قاعدة راسخة، وهى أن المسلم لا يخرج عن إسلامه إلا بجحد وإنكار ما أدخله فيه، وأن إصدار الحكم بالكفر لا يكون إلا بعد التحقق وسؤال مرتكب الأمر المكفِّر عن قصده بقوله أو فعله، وعن معرفته بأثره المترتب عليه، وعن مدى إصراره على ما أقدم عليه، فالإنسان إذا ارتكب مكفِّرًا فعدل عنه واستغفر وأناب امتنع الحكم بتكفيره، لكن يبقى أثر جرائمه عالقًا برقبته يحاسب عليها بعقوباتها، فالتوبة لا تسقط حقوق العباد، ومهمة العلماء تنحصر فى بيان معنى الكفر والأمور المكفِّرة والتحذير منها دون إسقاط حكم الكفر على شخص أو جماعة بعينها، ولذا امتنع الأزهر عن الحكم على داعش وأخواتها من الجماعات الآثمة بالكفر، مع عدم إغفال نقطة يتجاهلها كثير من الناس سهوًا أو عمدًا، وهى أن الأزهر لم يحكم بإيمان داعش أيضًا، بل إنه لم يتعرض لهذا الأمر من الأساس لعدم تحقق ضوابطه الشرعية التى تمكِّن من نظر القضية، فضلًا عن عدم اختصاص الأزهر بهذا الأمر أصلًا، فهو من صميم أعمال القضاء، ولم يصدر الأزهر كمؤسسة فى تاريخه حكمًا شرعيًّا بتكفير فرد أو جماعة، ولو فتح الأزهر هذا الباب لوقع فيما وقعت فيه جماعات التكفير ومنها داعش التى تصدر فرمانات التكفير وكأنها تملك القدرة على التنقيب عن مكنون الصدور!
وبعيدًا عن الولوج فى درب التكفير الذى لا طائل منه، ركز الأزهر اهتمامه على كيفية التعامل مع هذه الجماعات التى تسلك مسالك الإجرام وتسفك الدماء وتنتهك حرمة الأعراض والأموال، وبيَّن أنها جماعات مفسدة فى الأرض محاربة لله ورسوله، وأنه يجب كف شرها عن الناس والتصدى لها فكريًّا وأمنيًّا وعسكريًّا إذا لزم الأمر، وأن مواجهتهم، ولو كانت بالقتال المفضى لقتلهم جميعًا، واجب وضرورة؛ وذلك لأن جرائمهم تدخل فى نطاق قول الله تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»، وعليه، فلسنا فى حاجة بعد ذلك للحديث عن قضية تكفيرهم، فلا فائدة ترجى من الخوض فيها، فضلًا عن أن الكفر لا يقال به إلا بيقين؛ لأنه يرجع إلى الاعتقاد، وهو يحتاج إلى الإبانة عنه بالإقرار، وهذا التنظيم المجرم لا نعرف عقيدة المنتمين إليه ولا دينهم، وما إذا كان هناك مغرر بهم بين صفوفهم، أو مكرَهون على الانضمام إليهم، ومدى قناعتهم بارتكاب الجرائم النكراء التى يقومون بها، كما لا نعرف حال نسائهم وأطفالهم، والحكم على جماعتهم ينسحب على كل هؤلاء بالضرورة، وقد حذرنا شرعنا من الإقدام على تكفير الناس متى احتمل وجه من آلاف الوجوه عدمه، وقد قال رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المرء لأخيه يا كافر، فقد باء بإثمها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رُدت إليه»، فماذا لو كفَّرنا داعش وأخواتها وكان بينهم مغلوب على أمره؟!
ومن ثم، فإن إثارة قضية التكفير لا طائل من خلفها إلا المزيد من اللغط وتعريض العقائد للضرر، ولذا يجب ترك أمر التكفير إلى القضاء يحكم به متى تثبَّت من أمر من يكفره ووجده مصرًّا عليه، أما الجماعات الإرهابية كداعش ومن على شاكلتها من الجماعات التى تعيث فى الأرض فسادًا، فقد أجاز لنا شرعنا ردعهم ولو باستباحة دمائهم إذا لم يندفع شرهم إلا بذلك، ولسنا فى حاجة إلى الخوض فى قضية التكفير التى لن تدفع عنا شرهم، بل ستضر بنا وبالمجتمع كله لخروجنا على قواعد وضوابط شرعنا من ناحية، وإغراء أنصاف العلماء بالتوسع فى إصدار أحكام الكفر على الآخرين من ناحية أخرى، ولا شك أن الرابح من ذلك كله هو داعش وأخواتها لا غير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة