تُعّدُّ القيم والأخلاق هى القاسم المشترك الأكبر بين بنى الإنسان بعد اشتراكهم فى الخصائص الخِلْقية البدنية والنفسية؛ بل أخذت تلك القيم من القوة والرسوخ ما جعلها محل اتفاق بين أصحاب العقول السليمة والفطرة السوية.
ولهذا المعنى كانت إذا نشبت ودبت الخلافات أو النزاعات بين المجتمعات أو الطوائف أو حتى الأسرة الواحدة رجعوا جميعا إلى هذا الإطار الحاكم لسلوكهم وحركة حياتهم، وهو (الإطار الأخلاقى)، الذى ارتضوه دون ترتيب أو اتفاق مُبْرَم سابق، وإنما يرجعون فى ذلك إلى ما رسخ فى عقولهم ووجدانهم وما توارثوه وتربوا عليه من آبائهم وأجدادهم، طبقة عن طبقة وجيلا عن جيل، فإذا احتكموا إليه مع إخلاص النية وصفاء النفس ذاب الشقاق والنزاع بين أيديهم وتلاشى من نفوسهم ورجع إليهم سِلْمهم وأمنهم.
وعندما أدركت المؤسسات العالمية - وعلى رأسها الأمم المتحدة – هذا المعيار، اهتمت به وجعلته جزءًا أصيلا من عملها فى حَلِّ النزاعات وتحقيق التعايش السلمى الآمن بين الشعوب والدول، واتخذت من منظومة القيم إحدى عشرة قيمة وجعلتها درعًا واقيًا تحمى به المجتمعات، وتضمن من خلاله التقليل من نشوب الخلافات، وكان من أهم تلك القيم: السلام والتعاون والإخاء والاتحاد والحب.
ونحن إذا رجعنا إلى ثقافتنا وديننا سنجد أن تلك القيم وأكثر منها، قد حَفَلَت بها النصوص الشرائع السماوية، بل وكل ما ارتضته واتفقت عليه الأمم السابقة قبل تلك الشرائع؛ لأنها مما توافقت عليه العقول وتلقته بالقبول.
وفى ديننا الإسلامى الحنيف السمح دعوة واسعة للتحلى بهذه القيم وغيرها، مع الموافق والمخالف؛ بل حثَّت النصوص الشرعية على الإنصاف والعدل مع الآخر ولو كان مكروهًا أو متجاوزًا، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة: 8]، وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم :َ" أَدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ "(رواه الدارمى والترمذى).
والجميل الذى ينبغى الالتفات إليه أن الإسلام عندما دعا وحثَّ على التخلق بتلك القيم والأخلاق جميعها، جعل قيمة ( الرحمة ) فوق تلك القيم كلها؛ بل وحاكمة عليها، لضمان الإنصاف فى التعامل مع المخالف أولا ثم التسامح معه ثانيًا؛ إذ حتى قيمة " الحب " التى يدعو الجميع – ونحن معهم – لبثها ونشرها وإشاعتها بين الناس لإزالة أى كراهية أو احتقان بينهم، ذلك الحب ما هو إلا رافد من روافد ( الرحمة )؛ إذ " المحب قد لا يرحم إلا حبيبه، أما الرحيم فإنه يرحم حبيبه وبغيضه "؛ لأنه يتعامل بالفضل وليس بالعدل، وبالإحسان وليس بالميزان.
ولذلك كانت قيمة " الرحمة " فوق كل القيم والأخلاق، فبها الإنسان يحب ويعدل ويساوى بين الناس ويتعاون معهم، ويتكامل ويسالم، ويَصْدُق ويتآخى ويُؤْتَمَن.... وهكذا؛ ولا عجب فى ذلك إذ المولى عز وجل أول ما خاطبنا استهلَّ كلامه العزيز بصيغتين من صيغ الرحمة فى جملة واحدة، وذلك فى أصل سورة الفاتحة وفى بداية كل سورة، فيقول سبحانه: (بِسْمِ ٱللّٰهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيمِ) ليُؤَمِّنَ عباده ويطمئن قلوبهم ويصلح بالهم. وعندما بدأ سبحانه سورة من سور القرآن باسم من أسمائه الحسنى وصفة من صفاته العُلا اختار اسمه الموصوف بتلك الصفة الجميلة: (الرَّحْمَـنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن: 1-4].
وبالمعنى ذاته كان النبى صلى الله عليه وسلم نبعًا للرحمة وحاملا لها ومتعاملا بها، حتى مع مخالفيه، لأنه يريد أن يجمع الناس ولا يفرقهم، ويرفق بهم ولا يعنتهم، فقد أرشده ربه إلى أن الذى يجمع القلوب ويُوَحِّد الصفوف ويُف~لح المساعى وينُنَجِّح المتصدِّر فى كل مكان إنما هو التحلى بتلك الصفة التى يقل وقوعها بين كثير من الناس، فقال له سبحانه فى توجيهٍ باقٍ وخالدٍ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ)[آل عمران: 159]؛ بل لخص رسالته وبعثته كلها فى كلمة واحدة جامعة مانعة ماتعة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107].
وعندما غابت تلك القيمة فى التعامل بين الناس بل بين الكائنات كلها، دب الخلاف والشقاق والنزاع، حتى بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد والبيت الواحد، ولن تعود روح الإنسانية ونقاء التدين إلا بالتمسك بمنظومة القيم وعلى رأسها قيمة (الرحمة).
إذا أدركنا هذا المعنى العظيم لعرفنا لماذا ترتكب الجماعات المتطرفة والمتشددة تلك الأفعال الشنيعة والحماقات الفجة والجرائم البشعة، باختصار.. لأنهم لم يعرفوا من الدين إلا الأشكال، ولم يكلفوا أنفسهم كيف يتخلقون بأساس الدين وثمرة العبادات، وهو التخلى عن كل قبيح، والتحلى بكل مليح، من القيم والأخلاق، وأنه كلما تحقق من يدَّعى التدين بذلك كان أقرب إلى حقيقة الإنسان، وأجدر بأن ينتسب إلى الأديان فضلًا عن الإسلام، والأهم أنه يصير فيه شيء كبير ممن يدَّعى الانتساب إلى دينه وشريعته، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذى قال: " إِنَّ أَحَبَّكُمْ إلى وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا "(رواه الترمذى)، وقال عليه الصلاة والسلام: " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى , ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ "( رواه أحمد وأبو داود ).
إن القيم والأخلاق تاج على الرؤوس، وإن الرحمة هى درة ذلك التاج.
عدد الردود 0
بواسطة:
عادل مقلد دمياط
الشكر للكاتب
الشكر للكاتب وليعلم العالم كلة ان الاسلام دين الرحمة والعدل وليس دين القتل وسفك الدماء