فى صمت موحش رحل البطل العظيم، لم تعلن خبر وفاته الصحف السيارة فى زحمة تكدسها بزيف الكلام الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع حول العيش بكرامة وحرية كما ينشدها هو وأمثاله بتضحياتهم الأسطورية فى معارك الشرف، ولم تعلن عنه الإذاعات المفعم أثيرها بطنين الأغانى والمهرجانات الجنونية، ولم تقترب من سنا عطر سيرته شاشة الفضائيات المكتظة ببرامج التوك الغارقة فى المهاترات الكبرى حول الغلاء والأسعار والدولار، فضلا عن فيضها الوافر من الدراما الهزلية التى تخاصم البطولات الحقيقية، بل فى تحدٍ صارخ راحت ترسخ للعنف والمخدرات وظواهر سلبية عبثية لا تحاكى واقعنا بقدر ما تسيء .
توفى بطل إيلات القبطان عمرو إبراهيم البتانوني، 20 يوليو الماضي، عن عمر يناهز 73 سنة، وتركنا جميعا وراءه نتساءل فى دهشة عن معنى البطولة والفداء فى قلب زمن التردى، لم يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريبًا يموت آخر الشهود المجهولين، آخر الرواة المنسيين الذين عاصروا أروع بطولاتنا، أولئك الذين عرفوا "البتانونى" وحش البحر والبر، أيام شبابه جوادا بريا لم يسرج بغير الريح سعيا نحو استعادة الكرامة المصرية، فمن يحمل عبء الذاكرة؟، ومن يكتب سيرة من لا سير لهم فى بطون الكتب رغم براعة الإنجاز، أولئك الذين قسموا جسومهم فى جسوم الناس، وخلفوا آثارا عميقة تدل على غيرهم، ولكنها لا تدل عليهم.
صحيح أن هذا الرجل يعد نموذجًا لا علاقة له بغيره من العسكريين الذين انخرطوا فى لعبة السياسة - بعد التقاعد - لاستكمال دورهم الحيوى فى القطاع المدنى، وآثر الصمت طويلاً منشغلاً بأعماله الخاصة ليتوارى خلف الجدران بعيدًا عن وهج الشهرة والأضواء، ومع ذلك سيظل التاريخ العسكرى المصرى الحديث يسجل بفخر بطولة "البتانونى" النادرة كواحد ممن قاموا بتلغيم المدمرتين الإسرائيليتين "بيت شيفع وبات يام" فى مهمة انتحارية، وتم تفجيرهما وإغراقهما فى ميناء إيلات الحربى.
كان دور الملازم أول بحرى "عمرو البتانونى" فى العملية أن عبر فى الساعة 12.20 يوم 6 فبراير 1970 ومعه زملاؤه من تحت الشباك، وفى ساعة الصفر هجم زميله الملازم أول رامى عبد العزيز ومعه الرقيب محمد فتحى على "بات يام" بينما هجم البطل "عمرو" ومعه الرقيب "على أبو ريشة" على الناقلة "بيت شيفع" وقاما بتلغيمهما، وبدقة متناهية تم ضبط توقيت الانفجار على ساعتين فقط، بدلاً من أربع ساعات كما كانت الأوامر تنص على ذلك، وبناء على فرضية: أن فرد القوات الخاصة له أن يقوم بالتعديل فى الخطة الموضوعة حسب مقتضيات الظروف.
فى تمام الساعة الثانية من صباح نفس اليوم سمع دوى الانفجارات فى ميناء إيلات، وخرجت الدوريات الإسرائيلية للبحث عن منفذى الهجوم، لكن إرادة الله كانت وستظل فوق كل شيء، مصدقًا لقوله تعالى: "فأغشيناهم فهم لا يبصرون"، ونجحت العملية فى استعادة الأمل من جديد للتحكم فى مياهنا الإقليمية، والتى كان العدو يقوم باختراقها معلنًا التحدى بين الحين والآخر ليكشر عن أنيابه القذرة .
ربما لم ينل هذا البطل من التكريم بما يليق به حيا وميتا، لكن يبقى الأمل على عاتق صناع الدراما المصرية فى عمل مسلسل يرصد مثل تلك الأساطير الحقيقية فى التضحية والفداء، حتى تعى وتفهم الأجيال الحالية قيمة البطولات العسكرية المصرية التى صنعت المعجزة من قبل، وهى قادرة الآن أيضًا على تأمين المستقبل مهما كان حجم المواجهات والتحديات الإرهابية فى ظل مؤامرة الداخل والخارج.
رحم الله البتانونى الذى رحل فى غيبة من وعينا.. ورحم الله شهداءنا الذين سالت دماؤهم الطاهرة على رمال سيناء، وأعان الله جند مصر "خير أجناد الأرض" فى مهامهم للذود بالنفس والبدن فى سبيل الوطن .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة