على نحو خاطئ، يظن البعض أن "العقيدة العسكرية" تنصب فقط على الشأن العسكرى، كمصطلح عسكرى عام يصف الأداء العسكرى بشتى صوره؛ ومن ثم فهى معنية بالأساس بتوضيح الخطوط العريضة الحاكمة لحركة المؤسسة العسكرية فى كافة الاتجاهات. وأزيد على ذلك فأقول إنها، أى "العقيدة العسكرية"، يتم نسجها وفق كل تجربة وطنية، بما لها من خصوصية، وبالتالى فهى نتاج دمج النظريات بالتاريخ الوطنى وما يحمله من تجارب وخبرات عملية مكتسبة.
وتوضيحاً للأمر نشير إلى أن "العقيدة العسكرية" الوطنية، وبحكم التاريخ، وما حمله من تجارب، تولى سلوك الكيان الصهيونى متابعة دقيقة. مثلما الاتجاه الشرقى عامة محل اهتمام بالغ فى نظريات الأمن القومى المصرى، لسوابق تاريخية معروفة، لطالما أكدت أن الخطر الداهم يأتينا غالباً من هذا الاتجاه.
وعليه، فإن "العقيدة العسكرية" تشير إلى الفكرة الوطنية المنوط بالمؤسسة العسكرية الانحياز إليها والعمل بمقتضاها. كما أنها معنية بالأساس ببلورة الخبرات المتراكمة لتضيف جديداً إلى جهود المؤسسة العسكرية. من ذلك أن التصنيع العسكرى يمثل ركناً أساسياً فى عقيدتنا العسكرية، وما يقتضيه ذلك من الدفع بقوة نحو التفكير الإبداعى بهدف التغلب على معوقات قتالية، ربما يظل نموذجها الأول ماثلاً فى قدرة الجيش المصرى، وبإمكانات بسيطة، على اقتحام وتدمير خط بارليف الحصين فى حرب أكتوبر المجيدة عام 1973.
غير أن جانباً تنموياً للعقيدة العسكرية، أجده وراء ما تقوم به مؤسستنا العسكرية من دور بالغ الأهمية فى بناء الدولة المدنية الحديثة التى على إثرها تتحقق التطلعات الشعبية التى أعلت ثورة يناير المجيدة من شأنها، وأكدت عليها الموجة الثورية التصحيحية الهادرة فى الثلاثين من يونيو.
ولا مبالغة فى أن الجانب التنموى غالب، وهو المؤسس الصحيح، والمُنشئ الأول للعقيدة العسكرية الوطنية. ولتبديد كل غرابة فى الأمر، أُشير إلى تعريف "العقيدة العسكرية" فى قاموس المصطلحات العسكرية الروسية، والتى ورثتها عن الفكر الاستراتيجى للاتحاد السوفيتى، ثانى القوى العالمية إبان الحرب الباردة التى اندلعت فى أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتأسيس منظمة الأمم المتحدة عام 1945؛ إذ يشير التعريف إلى "العقيدة العسكرية" باعتبارها (النظام الرسمى المعتمد من الدولة لمجمل الآراء العملية حول طبيعة الحرب الحديثة واستخدام القوات المسلحة خلالها... وهى تتكون من شقين أساسيين وهما، شق اجتماعى سياسي، وآخر عسكرى تقنى).
وعليه، فللعقيدة العسكرية شق اجتماعى سياسى، يهتم بكل ما يتعلق بسُبل الأداء، وما يلزمها من أسس اقتصادية، وقواعد اجتماعية، فضلاً عن القيم المجتمعية السائدة، والتى على إثرها تتحدد رؤية الدولة للحرب وحقيقة أهدافها السياسية؛ إذ ليست الحرب إلا الامتداد العنيف للعمل السياسى. ومن هنا فإن الشق الاجتماعى السياسى هو الركيزة الأولى للعقيدة العسكرية الوطنية، وعليه يتحدد فكر ومضمون الشق العسكرى التقنى. وبقول آخر فإن الشق العسكرى التقنى منوط به تحقيق أهداف الشق الاجتماعى السياسى.
ونلاحظ فى الشق الاجتماعى للعقيدة العسكرية الوطنية، كم أن العسكرية الوطنية نموذج رائع لتجانس الأمة المصرية، فلا فرق بين مسلم ومسيحى تحت شرف الرداء العسكرى، وفى الجندية أيضاً لا حواجز اجتماعية كذلك بين كافة أبناء الوطن.
كما أن "التجنيد" يدفع بالمؤسسة العسكرية إلى أحضان المجتمع، حتى باتت فترة التجنيد مدرسة فى حد ذاتها، منوط بها "تعليم" الكثير من الأسس التربوية المهمة فى سبيل تهيئة الفرد للاندماج بجدية فى المجتمع، وفى ذلك مكمن الشعور الحميمى بين الشعب ومؤسسته العسكرية، فهى متغلغلة بمبادئها وقيمها فى كل بيت. وفى الشق الاجتماعى أيضاً، نلمح الأداء الاقتصادى لمؤسستنا العسكرية القائم على الاكتفاء الذاتى، فلم تكن يوماً عبئاً على اقتصاد الدولة، بل كانت دائماً داعمة له، فى كافة مجالات التنمية، فيما يعبر بصدق عن رؤيتها لجوهر التنمية الشاملة.
وفى الوجه السياسى للعقيدة العسكرية، تدرك مؤسستنا العسكرية، بعقيدتها الراسخة، أن الحرب الخيار الأخير للدولة المصرية. فلطالما انسابت مصر بإبداعاتها المُلهمة فى المسيرة الإنسانية، انسياب النيل الهادئ فى الوادى الأخضر الوديع.
لكن قوة مؤسستنا العسكرية ليس لها إلا أن تتقدم، وإن تأخرت بعض عناصر قوة الدولة المصرية، بفعل متغيرات مجتمعية استثنائية، لعل أهمها الثورة. إذ لم يكن تسليح وتدريب قواتنا المسلحة يوماً محل مفاضلة أو مقايضة، بل ظلت دائماً محل فخرنا جميعاً، ومصدراً من مصادر رفع شأن عنصر القوة المعنوية فى حسابات القوة الشاملة للدولة المصرية. باعتبار مؤسستنا العسكرية محور عقيدتنا الوطنية الراسخة، مثلما يحمل أبناؤها الدولة فى جوهر عقيدتهم العسكرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة