بعد خمسة عشر عاماً من نشر المقال، يشغل كورزويل الآن منصب مدير الشؤون الهندسية فى شركة "جوجل"، وله مريدون كثيرون من علماء المستقبليات، ورغم أن بعض توقعاته فى المقال كانت غريبة، أو مبالغ فيها، إلا أن الخبراء يرون أن مبادئها الأساسية لا تزال صالحة إلى حد كبير، ويدل على ذلك –حسب قولهم- التطورات الكبيرة المتلاحقة فى مجموعة من التقنيات الحديثة، مثل قوة الحوسبة، وتخزين البيانات، وحجم شبكة الإنترنت وأدائها، تصنع هذه التطورات نقاط تحول، أو لحظات تصعد فيها –بلا حدود- تقنيات مثل الروبوتات، والذكاء الاصطناعى وعلم الأحياء، وتكنولوجيا النانو، والطباعة ثلاثية الأبعاد، مسببة تغييراً مفاجئاً وعميقاً، وكما تقول فايفاى لى، رئيسة مختبر ستانفورد للذكاء الاصطناعى فى كاليفورنيا: نعيش اليوم فى عالم يختلف تماماً –إلى حد مثير للدهشة- عن العالم الذى عاش فيه آباؤنا" والأمر نفسه سيحدث –بل وأكثر منه- مع أبنائنا وأحفادنا.
يرى كورزويل وآخرون أن الناس يجدون صعوبة بالغة فى استيعاب التغيرات السريعة، لأن الطبيعة البشرية يمكنها استيعاب معدلات التقدم الخطّى الثابتة، لا الواثبة، تماماً مثلما ينظر شخص إلى صورة مكبرة لجزء صغير من دائرة، فيبدو له كأنه خط مستقيم، يميل الناس إلى التركيز على السنوات القليلة الماضية، لكن النظرة الشاملة تكشف عن تغير أكثر دراماتيكية، فالعديد من الأمور التى يعتبرها المجتمع من المسلمات اليوم كانت "هراءً تنبؤياً" قبل عقود قليلة، فيمكننا الآن البحث فى مليارات الصفحات والصور ومقاطع الفيديو على شبكة الانترنت، كما أصبحت الهواتف الجوالة فى أيدى الجميع، وهناك المليارات من أجهزة الاستشعار الذكية المتصلة بالأنترنت، التى تراقب كل شيء لحظة بلحظة، ابتداءً من حالة الكوكب، إلى نبضات قلوبنا ومعدلات نومنا، بل وتعدّ خطواتنا، أما الطائرات بدون طيار، والأقمار الصناعية صغيرة الحجم، فتجوب السماوات بُحّرية.
وإذا استمر التغير فى حدوث بإيقاع سريع، ستبدو كل هذه التطورات تافهة فى غضون سنوات قليلة، لنأخذ "التعلم العميق"، على سبيل المثال، وهو شكل من أشكال الذكاء الاصطناعى، يستخدم معالجات دقيقة وخوارزميات جبارة، لمحاكاة الشبكات العصبية التى تتمرن وتتعلم بصورة تراكمية باستخدام مجموعات ضخمة من البيانات، فى يناير الماضى استخدمت شركة "ديب مايند" المتخصصة فى الذكاء الاصطناعى، والتابعة لشركة "جوجل" – تكنولوجيا التعلم العميق، لتطوير حاسب استطاع للمرة أن يهزم محترفى لعبة "جو"، التى طالما عُدّت من التحديات الكبرى أمام الذكاء الاصطناعى، وصرّح باحثون لدورية بأنهم يتنبؤون بمستقبل، تغدو فيه الروبوتات الذكية شائعة مثل السيارات والهواتف، وتتغلغل فى نسيج الاُسر، والشركات، والمصانع، بعد 20 عاماً –أو أقل- من الآن، وكما تقول دانيلا روس –رئيس مختبر الحاسبات والذكاء الاصطناعى فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فى كمبريدج –فإن "التسارع الحاد" للتقدم التكنولوجى سيفضى إلى "عالم يقتنى فيه كل إنسان روبوتاً، وتصير فيه الروبوتات جزءاً أساسياً من نسيج الحياة.
وحسب قول فايفاى لى، فقد بدأت تطبيقات الذكاء الاصطناعى تدخل عالم الواقع بعد عقود طويلة من التطوير، مع ظهور السيارات ذاتية القيادة، والواقع الافتراضى، وغير ذلك الكثير، ومن المرجح أن تتسارع معدلات التقدم فى الذكاء الاصطناعى والروبوتات، إذ تنفق الشركات ذات السيولة المالية الهائلة –مثل "جوجل" و "أبل" و"فيسبوك" و"مايكروسوفت" –مليارات الدولارات فى هذا المجال، وفى العام الماضى تساءل جيل برات –الرئيس السابق لمسابقة تحدى الروبوتات التى تنظمها وكالة الابحاث المتطورة فى وزارة الدفاع الامريكية –عما إذا كانت الروبوتات ستشهد فترة الازدهار والتنوع على غرار "انفجار كامبري"، ورغم أنه لا يوجد حتى الآن روبوت واحد يحاكى قدرة طفل رضيع على التعلم، يرى برات ان الروبوتات لا تزال تتمتع بميزة هائلة، ألا وهى قدرتها على التواصل فيما بينها عبر الانترنت بسرعات أعلى مائة مليون مرة من البشر الذين يتواصلون فيما بينهم بسرعة 10 بت فى الثانية، وسيؤدى ذلك –حسب قوله- إلى عدد كبير من الروبوتات التى ستستفيد من قدرة بعضها البعض على التعلم السريع كسرعة البرق، وقد تم اختيار برات فى سبتمبر الماضى ليرأس "معهد تويوتا للأبحاث" وهو مركز جديد متخصص فى أبحاث الروبوتات والذكاء الاصطناعى، أنشئ بتمويل قدره مليار دولار أمريكى، ومقره فى بالو ألتو بكاليفورنيا.
يرى العديد من الباحثين أن الاستعداد لهذا العام الجديد ضرورى، تقول فايفاى لى "نحتاج إلى التحلى بقدر أعلى من المسؤولية عند تصميم هذه الروبوتات وتشغيلها، خاصة أنها تصبح أقوى يوماً بعد يوم" ففى يناير 2015، وجّه كل من إيلون ماسك، وبيل جيتس، وستيفن هوكينج خطاباً عاماً يدعو إلى تكثيف الأبحاث فى مجال تعظيم الاستفادة من الذكاء الاصطناعى، وتجنب المعوقات المحتملة، وقد بلغ عدد التوقيعات على هذا الخطاب حتى الآن أكثر من 8000 توقيع.
إن التنبؤات المستقبلية ليست رهاناً مضموناً، وليس الجميع مقتنعين بأن البشرية ستشهد تحولات تقنية بهذه السرعة، فعلى سبيل المثال، يشك كين جولدبيرج –وهو مهندس فى جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلى- فى فكرة تطوير التقنيات بسرعة كبيرة فى جميع المجالات، أو فى تطور بعضها إلى مالا نهاية، ويقول " مكمن الخطورة فى التفاؤل المفرط هو بناء توقعات غير واقعية، قد تنتهى بأزمة جديدة تعصف بمستقبل الذكاء الاصطناعي"، مشيراً بذلك إلى فترات فى تاريخ الذكاء الاصطناعى، أدت فيها المبالغة إلى خيبة أمل، أعقبها نقص حاد فى التمويل، ويرى جولدبيرج أن التحذيرات الأخيرة من خطر تفوق الذكاء الاصطناعى والروبوتات على الذكاء البشرى "مُبالغ فيها إلى حد كبير ".
ويشك ستيوارت راسل –عالم الحاسبات فى جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلى – فى فكرة حدوث قفزات جوهرية حتمية، ناتجة عن التطورات التقنية السريعة، ويقول "حتى لو كان لدينا أجهزة كمبيوتر أسرع تريليون مرة، فلن نصل إلى ذكاء اصطناعى يضاهى مستوى ذكاء البشر، أو حتى نصفه، ويمكننا القول إننا سنحصل على إجابات خاطئة أسرع تريليون مرة من ذى قبل، وما يهم حقاً هو التطورات التصورية والخوارزمية التى يصعب التنبؤ بها".
لم يوقّع راسل على خطاب هوكينج، موقناً بأنه من الضرورى عدم تجاهل حقيقة أن التقنية قد تتسبب فى مخاطر محتملة وعواقب وخيمة، يقول "لقد ارتكبنا الخطأ ذاته مع تقنيات الوقود الحفرى قبل 100 عام، وها قد فات تدارك الأمر".
موضوعات متعلقة..
خالد عزب يكتب: الجمعية التاريخية تحت حصار الكوسة والخيار
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة