عندما كنت طفلاً كنت أعتقد أن الذكريات والأيام من عمرنا تمضى وتموت كالإنسان، لكننى حين كبرت ايقنت أنها لا تموت وأنها تعود للحياة بغمضة عين تستعرض أمامنا كل أحزاننا وأيامنا بسوادها وبياضها بحلوها ومرها، فالذكريات حين تنتهى لا تذهب ولا تغيب أنها تبقى بداخلنا تختبئ فى أعماقنا بكل تفاصيلها فينعكس ذلك على وجوهنا، فإن كانت الذكريات سعيدة اتضحت ملامح الفرح على وجوهنا، وإن كانت حزينة أصبحت للحزن علامة فى وجوهنا، هكذا هى الذاكرة تأتى بمن تشاء وقتما تشاء وحينما تشاء، ليس لنا منها إلا أن نبتسم على صورة أو نكتئب من صورة أو نتحسر أحياناً، وأحياناً نشكر الله أن الأمر وصل إلى هنا فقط، وكم منهكة عملية إحصاء الذكريات والأيام وغبية عادة تمزيق الأوراق.
فنحن نحول أيام عمرنا إلى مجموعة من الأوراق نسميها نتيجة، نبدأ فى اليوم الأول من العام الجديد بتقطيع عمرنا ورقة تلو ورقة ونستعجل انتهاء الأوراق برغم تأكدنا أن كل ورقة نقطعها هى خطوة للنهاية، وكثيراً ما كانت بداية السنة الجديدة فرصة لجرد حساباتنا وتصفية ذاكرتنا من أشياء علقت بها من دون إرادتنا وأحداث نتمنى لو لم تحصل معنا أو لو نتمكن من نسيانها.
ففى حياة كل منا ذكرياته التى لا ينساها إما لأثر عميق تركته فى أنفسنا وإما لسعادة عظيمة اقترنت بها وربما لألم أعظم، وفى حى عابدين كانت لى ذكريات جميلة كثيرة، حيث كان جدى رحمه الله يعمل موظفا فى إحدى شركات البترول وكانت تقع فى شارع محمد فريد، وكان جدى يأخذنى معه لعمله كثيرا فى فترة الإجازة وكان بعد انتهاء عمله، نمر على فرن سعيد عثمان لنشترى خبزه الشهى الطازج للغداء.
وقبل أن نتوجه للبيت كنا نمر محل عصير عم زكى بشارع الشيخ ريحان لنشرب عصير القصب اللذيذ ثم نتوجه للمنزل، حيث كان منزل جدى قريب من حى عابدين، وكثيرا ما كان جدى يخرج ليقابل اصحابه فى المساء، فبعد أن يتناول الغداء وينام لساعة ينهض ويشرب الشاى ثم يخرج ليلتقى بأصحابه فى مقهى موسى عطية بسوق الاثنين.
وأذكر كيف كان لكل واحد من أصحابه اغنية ارتبطت بذكرى عنده يحب أن يحتسيها مع فنجان القهوة أو كوب الشاى، وأتذكر صاحبها الحاج منعم الذى كان دائما يتناقش مع جدى فى أمور كثيرة، بعضها تخص مشاكل أبناء الحى وكيف من الممكن حلها بمساعدة نائب الدائرة، وعند عودتنا للمنزل كنا نمر على مثلجات الربيع بباب اللوق لآكل أنا الآيس كريم ويشرب جدى عصير المانجو أو الفخفخينا، ثم يشترى للعشاء الفطائر اللذيذة من عند عم سليمان الفطاطرى الذى أصبح محله الآن أبو حسام الكبابجى.
الآن وأنا أسير فى شوارع عابدين أتذكر ذلك الماضى الجميل، كأبناء حى عابدين الذين يتذكرون مثلى ذكرياتهم الجميلة بين ربوع هذا الحى.
الذاكرة إذن وإن استخدمناها لاسترجاع ما نريد، إلا أنها تملك ما تريد ايضاً ولها أن تعيد لنا ما تناسيناه أو أننا نسيناه، فللذاكرة حضورها البهى والشهى والذاكرة كائن حى يملك ما يريد ويُملى على الآخرين ما يريد أيضاً.
عابدين
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة