ذكرنا فى المقالة السابقة أن تنظيم داعش الإرهابى قام بالتدليس على الناس وبخاصة شباب المسلمين، من خلال تحريف مفاهيم بعض المصطلحات الإسلامية، وذلك لتبرير أفعاله النكراء واستقطاب الشباب من مختلف دول العالم، ومن أهم المفاهيم التى لبَّسوها على الناس:
الخلافة:
يزعم هؤلاء أن نظام الحكم الذى ينبغى أن يعترف به الناس دون سواه هو ما يكون على غرار الخلافة التى سادت حتى أسقطها «الهالك أتاتورك»، فتمزقت بلاد المسلمين إلى دويلات وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ثم فعلينا نحن المسلمين، فى زعمهم، أن نثور على هذه الأنظمة السائدة فى بلادنا لنسقطها ونعيد نظام الحكم الإسلامى الأوحد، وهو نظام الخلافة، ولذا أطلق تنظيم «داعش» على نفسه هذا الاسم الذى هو اختصار لـ«الدولة الإسلامية فى العراق والشام»، وهو الاسم الذى رفضه الأزهر الشريف وقاوم كثيرًا من أجل أن تعدل عنه وسائل الإعلام ولا تروج له. وقد أثبت فى أكثر من مناسبة خطأ هذا الزعم، وأن نموذج الخلافة غير ملزم، وأن جميع الأنظمة السائدة فى زماننا فى بلاد المسلمين تقبلها الشريعة الإسلامية بما فيها من أنظمة رئاسية وملكية وسلطانية وأميرية، وغير ذلك مما تعارف عليه الناس وقبلوه نظامًا يسوس أمورهم ويدينون له بالولاء.
والناظر فى نظام الخلافة نفسه بشىء من التدقيق يراه أنماطًا مختلفة وإن اتفقت جميعًا على فردية الحاكم الأعلى، وقبول نظام الخلافة لتعدد أنماط الاختيار واختلاف لقب الحاكم بين خليفة وآخر، يشعر بإمكانية تعدد الخلفاء أو الحكام أنفسهم. ويتجلى تعدد أنماط الخلافة فى اختلاف الطرق التى اختير بها الخلفاء الراشدون، رضى الله عنهم، فقد كانت طريقة اختيار الصديق أشبه بالشورى الموسعة، بينما كان اختيار سيدنا عمر أشبه بالتعيين فى زماننا، وقد اختلف الأمر فى اختيار سيدنا عثمان؛ حيث جاء بالشورى المضيقة الأشبه فى زماننا بما تفعله بعض الدول التى يكون اختيار الحاكم فيها من بين عدد محدود يصلح لتولى الأمر عن طريق البرلمان دون عموم الناس، وكذا كان الأمر مختلفًا فى اختيار رابع الخلفاء الراشدين سيدنا على بن أبى طالب، وفى اختيار خلفاء الأمويين ومن جاء بعدهم، كما رأينا أيضًا اختلافًا فى ألقاب الخلفاء بين خليفة وأمير للمؤمنين، وهذا يعنى أن النظرة إلى نظام الخلافة على أنه نظام جامد لا يقبل التغيير أو التطور نظرة غير سديدة وظاهرة البطلان.
الجهاد:
الجهاد فريضة محكمة فى الشريعة الإسلامية، وأدلته فى كتاب ربنا وسنة نبينا لا تخطئها عين متفقه، فضلًا عن فقيه، لكن العلماء اختلفوا فى علته، والراجح الذى يناسب حكم مشروعيته والذى يستنبط من سيرة نبينا، صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، أنه للدفاع عن الدين وحماية الأوطان، وهو ما يعرف بجهاد الدفع، وأن جهاد الطلب الذى يرجع إلى علة الكفر هو فى ذاته من جهاد الدفع لشر قوم يناصبون المسلمين العداء ويرفضون التعايش السلمى، ومن ثم فإن من امتنع منهم عن ذلك وجب الكف عنه، ولذا شُرع عقد الذمة التى تعنى ترك غير المسلمين على ما يعتقدون مع اعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمعات المسلمة متى قبلوا عقدها مع المسلمين، يقول الحق جل وعلا: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».
والجزية التى جُعلت غاية ينتهى عندها القتال هى فى ذاتها ليست لعلة المال؛ حيث يتخلصون منها بالدخول سلمًا فى الإسلام، أو أنها مقابل حمايتهم والدفاع عنهم بما يوجبه عقد الأمان، ولذا يستعاض عنها ببدائل أخرى كتحولهم من محميين بجنود المسلمين إلى مشاركين فى الحماية للأوطان بانخراطهم فى صفوف جيوش المسلمين. وعليه، فإن ما يدعيه هؤلاء من كون علة الجهاد هى عدم الدخول فى الإسلام، ولذا يستحلون دماء غير المسلمين من مواطنى الدول الإسلامية، من التدليس الممقوت فى شرعنا الحنيف، وأغرب من هذا زعمهم الجهاد ضد المسلمين حكامًا ومحكومين!
الدولة الإسلامية:
لا يوجد فى الإسلام ما يسمى بالدولة الإسلامية أو الدينية، وإنما ظهر هذا المصطلح فى عصرنا الحاضر نتيجة تشدد بعض التيارات الإسلامية التى أرادت إقحام الدين فيما تركه الدين لتقدير الخبراء والحكماء وما تعارف عليه الناس فى زمان ما، وما ذلك إلا ليواكب التشريع الإسلامى حركة تطور المجتمعات، ويراعى المستجدات التى تطرأ على حياة الناس، فالدين يحكم الإطار العام لقضايا المواطنين فى ديار الإسلام أو ما يعرف بالكليات، ويترك الجزئيات إلى ما تعارف عليه الناس دون تصادم بين أمور العبادة والعادة ما دامت لم تخرج عن الإطار العام للكليات والثوابت الشرعية .
وقد وضع رسولنا الأكرم، صلى الله عليه وسلم، قاعدة ذهبية حين مر على قوم يؤبِّرون النخل، فقال: «ما تصنعون؟ ». قالوا: نؤبِّرها. قال: «ولمَ تؤبِّرونها؟». قالوا: لو تركناها لشاصت. فقال: «لو تركتموها لصلحت». فتركوها فشاصت. فقالوا: يا رسول الله، قلت لنا لو تركتموها لصلحت، فتركناها فشاصت. فقال: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم».
ومن ثم، فإن أمور سياسة الدنيا تُترك لتقدير أولى الأمر لتُضبط فى إطارها العام بأخلاقيات الشرع وما تقتضيه الأعراف الصحيحة، دون إقحام للدين فيما تركه لتقدير الناس. وعلى ذلك، فالدولة، كما عرفها مؤتمر الأزهر العالمى لمواجهة التطرف والإرهاب، هى الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وليست الدولة الدينية التى تزعمها الجماعات والتيارات التى تدعى أنها إسلامية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة