فى الطائرة، طالعتُ هذه الحكاية الطريفة من الفولكلور الإنجليزى، أودّ أن أترجمها لكم لعمقها على بساطتها.. عنوان القصة «الشجرة عبر الفصول»، تحكى عن أب وأولاده الأربعة، الذين ودّ أن يعلّمهم درسًا عظيمًا.. أرسل الأبُ كلًّ ابن منهم إلى مهمّة استقصائية، يؤدّونها بالتتابع.. المهمةُ رحلةٌ استكشافية إلى شجرة كمثرى كانت تقع على مسافة بعيدة عن بيتهم، ثم العودة بتقرير تفصيلى عن شكل الشجرة، ذهب الابنُ الأول فى فصل الشتاء، والثانى فى الربيع، والثالث فى الصيف، بينما ذهب الأخير فى فصل الخريف.
حين اكتملت رحلاتُ الأبناء الأربعة، قفلوا عائدين إلى والدهم بمشاهدتهم وتقاريرهم. جمعهم الوالدُ وطلب إليهم أن يصفوا ما شاهدوا. قال الابنُ الأول إن الشجرة كانت قبيحةَ المنظر، منحنية، وملتوية الأغصان، بينما قال الثانى إن الشجرة كانت مغطّاة بالبراعم الخضراء، وتحمل الكثير من الوعد بالإشراق والإثمار. لم يوافق الابن الثالث على ما قال أخواه، وقال إن شجرة الكمثرى كانت مثقلة بالأزهار، ولها رائحة شهية، وشكلها شديد الجمال، بل كانت تلك الشجرة هى الأجمل من بين كل ما شاهد فى حياته على الإطلاق. هنا اعترض الابنُ الرابع مع الجميع قائلًا إن الشجرة كانت ناضجة ووارفة، ومثقلة بالثمر، الشجرةُ تضجُّ بالحياة، واضحة الاكتمال.
قال الرجلُ لأبنائه إنهم جميعًا على حق، رغم تباين أقوالهم حدّ التناقض، ذاك أن كلًا منهم لم يشهد الشجرة إلا فى أحد أحوالها، وأحد مواسم حياتها، ولم يشهدها فى أحوال أخرى. وهنا تجلّى الدرس العظيم: من الخطأ أن نحكم على شىء، أو شجرة، أو شخص فى موسم واحد من حياته، أو فى حال واحد من أحواله، وأن الجوهر، والسعادة، والبهجة، والفرح، والحب التى تأتينا بها الحياة، لا يجوز أن نقيسها أو نُقيّمها، أو نحكم عليها إلا فى النهاية؛ حينما تتم الفصولُ جميعُها. فإن أنت يئست وسلّمت ورفعت الراية البيضاء فى شتائك، سوف تخسر الرجاء الذى يعدك به ربيعُك، وسوف يفوتك الجمال الذى سيأتى به صيفُك، وسوف يضيع عليك الاكتمال الذى سوف يأتى به خريفُك. فإن أنت تركت الألم الذى يضربُك فى أحد الفصول يستحوذ عليك، فإنه سوف يدمّر الفرح الذى سوف يأتى مع الفصول الأخرى، فلا تحكم على الحياة، ولا تحاكمها عبر فصل واحد من فصولها، فثابر واصبر على المناطق السوداء والظروف العسرة التى تمّر بك، لأن أوقاتًا طيبة لابد أن تأتى فى مقبل الأيام.
***
انتهتِ القصة الرمزية، لكن خيالى لم يتوقّف عن تأملها وأنا فوق وهاد السحاب، والطائرةُ تخترق الغيوم الكثيفة التى تفصل بينى وبين أراضى الله، وتحجب عنى رؤية بيتى وأهلى وأصدقائى.
تذكّرتُ أحوالًا كثيرة وفصولًا كثيرة لى، أتبدّل فيها بين الجدية الصارمة، والمرح الطفولى، والجنون حينًا، والتعقّل حينًا، التعجّل حينًا والرصانة حينًا، الفرح حينًا والحزن حينًا آخر، أن أكون أمًّا حينًا، وأن أكون ابنةً حينًا، أن أجلس صامتةً كتلميذة تتعلم من أستاذها، وأن أتكلّم وأحاضر كمُعلّمة أمام تلاميذ، أن أجادل وأحاور وأناور كمشاكسة، وأن أومئ فى هدوء كموافقة، وغيرها مما لا يُحصى من أحوال وفصول، جميعُها أنا وجُماعها أنا، لكن واحدهم قد يرانى فى فصل واحد، فيظنّ أنى شرسة، وغيره ربما يرانى فى فصل آخر فيقسم أننى وديعة، هكذا، وهذا ما ينطبق على جميع البشر.
أذكر أننى دخلت المسرح الكبير بقاعة الأوبرا يومًا فاستوقفنى بعضٌ من قرائى، ووقفنا ندردش برهة ونتمازح، فقال أحدهم: «مش معقول مش مصدق أنك بتعرفى تضحكى وتألشى كمان! كنت أقرأ مقالاتك فأظن إنك حد مكشّر طول الوقت!»، فضحكت وقلت له: «إوعى تصدق المقالات المُشكّلة واللغة العربية الفصحى المقعّرة، ده أنا عيّلة جدًّا».
كثيرون نحن، كل فرد منّا كثيرٌ وكثيرٌ وكثير، تمامًا مثل الشجرة التى لا تتبدل على أربعة أشكال فى كل عام وفق الفصول الأربعة وحسب، إنما تتبدّل على ألف شكل كل يوم، فورقة من أوراقها تسقط، تُبدّل من شكل الشجرة، وورقة تورق، تغيّر من هيئة الشجرة، وغصن يستطيل مليمترًا، يجعلها شجرة أخرى، لهذا قال هيراقليطس: «إنك لا تنزل النهر الواحد مرتين»، لأن النهر الذى نزلت إليه منذ دقيقة جرى ماؤه، وتبدّل موضعه، ولم يعد هو هو بعد دقيقة، ولا أنت هو أنت الذى كنته قبل دقيقة، فقد كبرت دقيقة فى عمرك، وتبدّلت رؤاك وأفكارك، وشاهدت خلال تلك الدقيقة ما لم تشاهده قبلها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة