أكتب إليك رسالتى بعد منتصف الليل لكى أتحدث عن شىء كان جميلا فى حياتنا، غمرنا سعادة ونورا إلى أن انطفأ هذا النور وانتهت هذه السعادة، أردت أن أتحدث عن أمى بعد أيام قليلة من ذكرى رحيلها، وأعبر عما يجيش بداخلى لكى أوفيها حقها ولو بجزء قليل، وفى جوف الليل وسكونه أمسكت بالقلم لأول مرة بعد 9 سنوات لكى أتحدث عنها وهى ترقد فى قبرها، ربما أكون قد أوفيت حقها بعد مماتها وكنت لا أريد أن أكتب عنها طيلة السنوات الماضية حتى لا أتذكر حزن سنوات مضت.
كانت أمى تعمل مديرة بالتربية والتعليم وكانت مثالا للأم الحنونة القوية فى شخصيتها لكى نحقق حلمها وأن نصبح فى مراكز مرموقة وسارت بنا الحياة بلا أى منغصات إلى أن سافرنا إلى دولة عربية قضينا فيها 4 سنوات، وتعبت وقتها أمى بالتهابات فى الكلى ربما تكون ثمن الغربة فيما تصورت.
وبدأت بعدها مرحلة العلاج عند أحد الأطباء المشهورين وكنا نتدرج فى مراحل التعليم المختلفة ولم يمثل المرض لأمى شيئا بالنسبة إلى إصرارها وأحلامها التى لا تتوقف بأن نصبح شيئا فى المجتمع كما ذكرت فكانت تذاكر الدروس مع أخى الأصغر وتتابع أخى الأكبر باستمرار، وكانت تأمل أن يلتحق بكلية الطب ليصبح طبيبا تفتخر به، ومرت السنوات واشتد مرض أمى ومعها زادت آلامنا وكان كل همها أن تصل بنا إلى بر الأمان بمساعدة أبى الحنون والذى لا يتوقف عن تلبية احتياجاتنا.
وفى عام 92 سافر أبى بمفرده إلى دولة عربية وكنا نحن نقترب من المرحلة الثانوية ووقتها سافرت معه أيضا لأكمل دراستى وكان أخى الأكبر قد التحق بالثانوية العامة ويبقى عاما واحدا يفصله على تحقيق رغبة أمى وفى نهاية العام لم يحقق أخى المجموع الكبير الذى يلحقه بكلية الطب وأحزننا جميعا ففكرنا فى التحاقه بكلية الشرطة ولم يكن له نصيب فى ذلك إلا أن أمى كانت لديها رغبة ملحة أن ينهض مرة أخرى وبإرادة قوية قام أخى بإعادة السنة مرة أخرى بمساعدة أمى والتى لا تكف عن متابعته رغم مرضها، وكنت أنا وقتها فى نفس العام وأخيرا حقق أخى حلم أمى وأبى وحصل على مجموع كبير يؤهله لكلية الطب وكذلك أنا حصلت على مجموع كبير التحقت به لدراسة الإعلام.
أما أخى الأصغر فقد حصل أيضا على مجموع يؤهله للالتحاق بكلية السياحة، إلا أن أمى على مدار سنوات مرضها كانت تتوجع وتئن ولا تشكو حالها لأحد إلى أن جاء الطبيب فى إحدى المرات وقرر إجراء عملية زرع كلى لها بعد فشل الكليتين تماما وخلال شهرين على الأكثر أنهينا جميع الإجراءات ودعونا جميعا أن تخرج أمى من العملية الصعبة المزمع إجراؤها وتمت العملية بنجاح وعادت أمى إلى سابق عهدها تحوطنا بحنانها وعطفها ورعايتها وكنت قد تخرجت من كليتى لأعمل بالصحافة وفى هذه الأثناء التحقت شقيقتى الصغرى بكلية الطب لتكتمل فرحتنا فيما تخرج شقيقى الأصغر من كليته.
وبعد 5 سنوات من العمل الصحفى كنت قد تزوجت وسعدت جميع الأسرة بذلك فيما تخرج أخى الأكبر من كليته وعين نائبا لجراحة المخ والأعصاب وكان قد تزوج بعدها وحصل على الماجستير وجاءت له بعثة للسفر إلى الخارج للحصول على الدكتوراه وغادر شقيقى البلاد وسط حزن شديد من أمى لتعلقها الشديد به، وكانت هذه هى نقطة التحول ومر عام من بعثة شقيقى ومرضت أمى فجأة وعلمنا بعدها أن مرض الكلى هاجمها مرة أخرى فتوجهت بها فورا بسيارة الإسعاف إلى القاهرة بصحبة زوج شقيقتى الطبيبة وكانت هذه بداية النهاية، وذهبت على الفور إلى أحد مراكز الكلى الشهيرة فى وسط البلد وتم احتجاز أمى بداخلها تنقلت خلالها بين الغرف وزادت معها حزنى الشديد وكنت يوميا أخشى من موتها خاصة وأن الموت كان قد اقترب منها بعد تدهور حالتها على الرغم أننى كنت لا أصدق فكرة الوفاة ولم تخطر على بالى.
وبعد شهر من دخول أمى المستشفى تبين أنها تعانى من فشل بالكلى للمرة الثانية ولا بد أن تتجرع الأم الغسيل الكلوى الملعون وبدأت أمى تنتابها حالة نفسية سيئة أما أنا فكنت أقوم برعايتها داخل المستشفى وفى كل مرة أدير وجهى عنها لكى لا ترى دمعى، وكان ذلك بصحبة زوج شقيقتى المخلص الوفى والذى مهما تحدثت عنه لا أوفيه حقه .
وبعد شهرين كاملين داخل المستشفى دخلت أمى العناية المركزة وانهرت تماما غير مصدق ان موتها اصبح يراود عقلى وشعرت وقتها ان زلزلا عنيفا يهز كيانى وانفجرت فى البكاء ولم أنم تلك الليلة من الخوف والرعب من سماع الخبر المشئوم، وكان زوج شقيقتى الطبيب ملازم لى فى كل خطوة، وفى الفجر وقبل ان ينشر الصباح خيوطه فى المكان كان قد انتهى كل شىء ورحلت امى الحنونة المعطاءة عن هذه الدنيا، رحلت فى هدوء، واتصل بى الطبيب ليخبرنى بالوفاة، وخرجت من المنزل ولم ار الطريق امامى وتوجهت على الفور الى المستشفى غير مصدق، ودخلت عليها غرفة العناية المركزة وبدات اتحدث اليها وهى امامى ترقد على سريرها وانفجرت فى البكاء وانتظرت ان ترد على بينما صمتت هى الى الابد .
وبعد الانتهاء من مرحلة الغسل تأملت فى وجهها وجدتها تبتسم وقسمات وجهها تظهر نورا شديدا يزداد مع نظراتى اليها فقمت بتقبيل وجهها ويدها شاكيا حالى الى الله رب العالمين، بأن أمى ماتت صغيرة ولم تر أولادى ولم تفرح بابنتها بل أيضا لم تنتظر شقيقى الأكبر بعودته من الخارج وجلست بعدها أستغفر الله عما كان يدور بذهنى وتمت مراسم الدفن وسط بلدة باكملها وقضت أمى ليلتها فى قبرها.
ومرت الأيام وأصبحت بعدها لا اعرف للسعادة طعما فسواد الدنيا يسكن بداخلى ويرقد فى اعماقى، استشعر بالم يعتصر قلبى ويهزنى،يسرى فى جسدى حزن دفين وكبت عميق وبدأت تجف بداخلى دماء الحياة تدريجيا فأصبحت جزاءا من كل بعدما أصبحت الشاهد والشهيد على مرضها ووفاتها، وبعد انتهاء مراسم الدفن علم شقيقى الاكبر بخبر الوفاة فاسرع للحضور لمشاركتنا الاحزان .
انا الان أكتب هذه الرسالة لاوجه رسالة الى امى الحبيبة لكى اتذكر ولا انسى ما فعلته معنا واردت ان أوجه اليها الرسالة كاملة بان احلامها قد تحققت فشقيقى الاكبر حصل على الدكتوراة من اليابان، اما انا فقد رزقنى الله بطفلة وثلاثة توآئم بعد ان تاخرت عن الانجاب سنوات، اما شقيقى الاصغر فقد تزوج وعين فى احدى المصالح الحكومية وتزوجت ايضا شقيقتى الطبيبة وحصلت ايضا على الماجستير بكلية الطب ولا انسى اذكر أن بعد وفاتها كانت تستهوينى بقوة رؤيتها فى المنام وبالفعل كنت اراها باستمرار فى منامى وأسعد بذلك .
الان أيقنت ان كل شىء قد انتهى ولكن رائحة امى ما زالت عالقة فى خياشيمى وأتوجه دائما الى قريتى واصعد الدرج للوصول الى قبر امى لاعيش على ذكراها الاليمة وأتذكر كل شىء والماضى وحديثها الينا وتوجيهاتها ونصائحها وكانه شريط ذكريات مؤلم يمر امامى، وأظل احدثها وتنهمر دموعى، واصبح الشوق والحنين لها يرقدان بداخلى .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة