من يقرأ رواية محمد الفخرانى "ألف جناح للعالم" الصادرة عن الكتب خان لا يصدق أنه هو نفسه من كتب سابقا روايته المُدهشة "فاصل للدهشة" 2006، ذلك أن قدرة الكاتب وتعميق تجربته الروائية فى "ألف جناح للعالم" جعله يغاير العالم الذى عاود الكتابة إليه بصورة وموضوع وطرائق مغايرة تماما لما بدأ به فى روايته الأولى فاصل للدهشة.
الف جناح للعالم
فى رواية "ألف جناح للعالم" نحن أمام سرد شبه انعزالى أحادى النظرة عن فتاة تُدعى سيمويا تعمل فى التنقب الجيولوجى، فتاة رومانسية حالمة من أهم سماتها التفاؤل وصناعة البهجة وسط عالم يعج قبحا.. "أشعل شموعى، أشغل موسيقى هادئة، وأقضى ليلتى كأنى أحلم.. أمارس هذه العادات الرومانسية البطيئة كى أبطئ صورة العالم قليلا، فأشعر بإيقاع الوقت وعمقه" (ص25) كما أنها لا تفقد رومانسيتها حتى وهى فى عز رحلتها عندما توقف الركب على مقربة من جبل النور بعد أن خرجت سيمويا عن مألوفها الرومانسى "أتمنى أن يحدث قريبا ما يجعلنى اكتشف رومانسيتى" (ص 187)، سيمويا التى تحب الشيكولاته وتتفنن فى أكلها وشرائها والارتباط بها، تلك الحلوى التى تعبر عن نفسها "الشيكولاتة لا تنتمى سوى لنفسها"، سيمويا التى تصنع البيتزا للأصدقاء وتتفنن فيها كى تخرجهم من حالات غير مألوفة، سيمويا المرتبطة بجدتها و"لم تتذكر يوميا أنها رغبت فى أن تكون ابنة، لطالما أحبت أن تكون حفيدة، اكتشفت أنها طوال الوقت تتمنى أن تكون جدة" (ص 141) سيمويا هذه الشخصية الموصوفة من قِبل نفسها ومن قِبل الراوى هى بطلة النص ومحوره وكل ما عداها لا يرى إلا من خلالها وكأنها مركز الكون هى البداية والنهاية حتى الراوى العليم أوقعته فى أسرها كى لا يروى سوى عنها، وعن علاقاتها مع أطراف العمل (خاصة دوفو).
وعن التنقيب الذى يقوم الراوى بالحكى عنه على الرغم من كونه المهمة الأساسية فى نص "ألف جناح للعالم" إلا أن هذا التنقيب الجيولوجى أيضا لا يخرج عن كونه هامشا ضمن متن سيمويا نفسها .." أخرجت من دولابها حقيبة ظهر بنية وضعت فيها أوراق الليل، "ثلاث قطع شيكولاته" وأدوات عملها شاكوش صغير من الفضة، فرشاة أسنان تستخدمها فى تنظيف عينات الصخور.. كاميرا.. حذاءين قوياين يناسبان المشى فى الصحراء" (ص39 ) . تلك كانت بداية الرحلة لكن تفاصيل الرحلة التى فرطت فى السرد وأفرط الكاتب فى ذكر تفاصيل التفاصيل التى تحتاج إلى صبر ومثابرة فى القراءة لم تمح متعة ما كانت سيمويا ودوفو يجدانه آن التنقيب سواء على الأرض أو مياه البحر (غير محدد المكان والاسم مثل الرحلة نفسها)" رأيا فى عمق البحر طبقات بألوان مختلفة رزقاء حمراء برتقالية وردية ذهبية صفراء بنفسجية، تكررت الألوان بدرجات مختلفة بدت كأنها لن تنتهى" (ص 124 ) .
محمد الفخرانى
رحلة طويلة جدا بتفاصيلها نقلها لنا راوى نص "ألف جناح للعالم" رحلة سرد تقاسمتها معه سيمويا التى حملت معها أوراق الليل التى أخذتها من فتاة تُسدعى بينورا لكن مع نهاية الرواية سيظهر غير ذلك، رحلة طويلة لفتاة رومانسية لا تأتلف سوى مع الشيكولاتة ومع أهوائها.. "فكرت فى أوراق الليل بالمواقع التى زارتها ومشاعرها تجاه دوفو، كيف أنه لم يشعر تجاهها بالحب حتى الآن، وما يمكن أن يحدث غدا" (ص 460 ) تفاصيل كثيرة لرحلة طويلة معظمها مبهم الأماكن أرادت سيمويا عبر السرد عن نفسها والرحلة ألا تنظر سوى من وجهتها فقط، وكأنها مركز الكون وكذلك فعل الراوى فبدأت الرحلة من التنقيب عن الصخور فلم يجد القارئ سوى التنقيب عن النفس الإنسانية التى تصبو إلى الحب تبحث عنه كى تنجو حسب مفتتح النص "من أحب نجا" ومن الليل إلى الليل ومن بينورا التى أعطت سيمويا أوراق الليل التى لا يجب أن تقرأها إلا فى الليل وكلها مفعمة بالأحلام إلى جدة بينورا، ومن سيمويا إلى جدتها التى ارتبطت بها الى حدود التواشج، فالقارئ أمام نص تشمله التفاصيل حتى تختلط عليه الحقيقة "حياة سيمويا وجدتها " مع الخيال "أوراق بينورا" فينتهى النص بلحظة تهويمية أخرى لا يعرف معها القارئ هل كان النص استرجاعى لحياة سيمويا كى تنصح بينورا (حفيدتها آنيا ) بألا تنظر إلى الليل بل تتطلع إلى النهار بما فى ذلك من دلالة، أم أن النص كان رحلة تأمل فى النفس البشرية كى تصل إلى يقين أنه لا حياة بغير الحب، ذلك هو الفراغ النصى الذى تركه الكاتب محمد الفخرانى لقارئه كى يملأه حسب استمتاعه بالنص وتفكره فيه وتأويله له.
محمد الفخرانى مبدع صادق موهوب يكتب بتمهل لذا لم يكن غريبا أن يحصد جائزة "يوسف إدريس" عام 2011 عن مجموعة "قصص تلعب مع العالم" ، و جائزة الدولة التشجيعية للقصة، عام2012 عن مجموعة "قبل أن يعرف البحر اسمه" ، ثم تحصد روايته فاصل للدهشة التى ترصد عالم مصر الأخرى الذى لا يعرف من يحكمونه ومن يتولون أمره ومن هم نواب له عنه شيئا، لذا كشفت الرواية عن ملح الأرض من المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر فاستحقت "فاصل للدهشة" واستحق محمد الفخرانى كاتبها الحصول على جائزة معهد العالم العربى بباريس عام 2014 وهى جائزة مخصصة لأفضل عمل أدبى عربى مُتَرجَم إلى الفرنسية، كما صدرت الرواية عن دار نشر "سوى" أعرق دور النشر الأوربية عام 2014، وقامت بترجمتها السورية "ماريان بابو".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة