كثيرًا ما كانت تلمحه عيناى فى الطرقات كل يوم، وربما كنت أراه أكثر من مرة فى نفس اليوم، كان لا يثير داخلى سوى الشفقة على حاله، يراه صغار الشباب فيسخرون منه، ولا يَسلم من همزهم ولمزهم، ويتنابزون معه بما يكره من الأسماء، وهو لا يلقى لهم بالًا، ويراه الكبار؛ فيشفق الحكيم منهم على حاله، والساذج منهم يسخر كما يسخر الصغار.
كنت ألحظه تائهًا مرتبكًا يتلفت حوله كمخمور لعبت الخمر برأسه فنسجت غمامة على عينه... ويجول بناظره فى وجوه الخلائق، كطفلٍ صغيرٍ تاه عن أمه، ويحسب المسكين أنها هى التى تاهت عنه!
فيفرى الطرقات... يتأمل فى وجوه الناس حوله، علَّه يجد ضالته! تراه يرنو بعينيه إلى أعلى وسرعان ما ينكس رأسه إلى الأرض، كصغير مذنب عندما تقع عينيه فى عين والده... فأحسبه يخشى نظرات السماء إليه! وعجيب أمره أنه كان على صلواته محافظًا، فكنت أراه نظير متبرجة تقيم ليلها وتصون عرضها وتحفظ حق ربها لكنها أسيرة هوس الزينة والجمال!
لكنها وإن رضت بالأسر حالًا، لا يرضى هو... بل يحاول تحطيم قيوده ويتطلع إلى الحرية من خلف القضبان، كعصفور ضعيف ينظر إلى الطيور تحلق فى السماء وهو فى قفصه يهيج ويرفرف بجناحيه، لكن الأقدار لفظت حكمها الأخير بسجنه مدى الحياة!
فذات يوم رأيته وتفكرت فى أمره، فتغير شعورى تجاهه وأصابنى إحساس غريب مريب، فقد جعلنى أشفق أنا على حالى وربما جعلنى أغبطه على حاله!
بعد الانتهاء من الصلاة، تلفت عن يسارى فوقعت عيناى على وجهه دون أن يرانى... ففجر داخلى سيل من الأفكار، وكأنما كانت نظرتى إليه كشررة ألقيت على كومة من القش فتفاقمت فيه النيران... أخذت أتأمل فى تجاعيد وجهه وآثار الندوب فى وجنتيه، فآلمتنى نظراته المرتعشة إلى المصلين من حوله، كأنما يشعر بوحشة فى هذا المكان... كغريب بلسان عربى نزل على بلد أعجمى فرأى أهلها متفاهمين بلغتهم، مستأنسين ببعضهم، فتذكر غربته فاجتمع على قلبه آلام الوحشة وآلام البعد عن الأهل والأحباب.
لسان حاله يقول لهم أنا لست منكم... وهذا ليس مكانى! فعجبًا لهذا الأسير كيف تحرر من أسره وتغلب على قيده وجمع نفسه فى صفوف المصليين! عجبا لهذا الأسير؛ كيف يحيا بغير طموح فى عمل كريم أو زوج حصين أو ولد معين يحمله عند المشيب!
عجبًا له وهو كبير إخوته وتراه مطمئنا إلى المستقبل، ولا يخشاه... وكيف يخشى المستقبل من هو أسير حاضره! كيف يخشاه وهو ليس لديه ما يخسره!
فهو لا يحمل أملًا ليخيب له، ولا يهاب نكبة تنزل به أكبر من نكبته هذه! جدير بمن يتأمل حاله أن يخفض سقف طموحاته ويرضى بقضاء وقدر الإله، ويهنئ نفسه على طيب عيشه وجميل حاله، فهذا الأسير كالصخرة التى تتحطم عليها كبرياء الطموح وآلام الحسرة والندامة على ما فاتك من حطام الماضى. هو الصخرة التى تتهشم عليها كل مصيبة تؤرق نومك وتقلق مضجعك.
جدير بك عندما تراه أن تتذكر قول النبى الكريم "من أصبح منكم آمنًا فى سربه، معافًا فى جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" وحتما سيثير فى ذاكرتك وصية النبى الحبيب (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تذدروا نعمة الله عليكم) فلا تكن مثله وتأسر نفسك فى سجن الحاضر لتخرجها من سجن الماضى! هذا هو الحر الأسير يا كرام!
إنه أسير الإدمان يا سادة... فرفقا بمن كان حالهم كحاله!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة