رحل فى صمت موحش.. لم تنعه الصحف السيارة كما ينبغى، أو الفضائيات الصاخبة بالشكل الذى يليق بغياب واحد من أهم رجالات يوليو 1952 العظام، بينما فى مفاجأة من العيل الثقيل، أعلنت الصفحة الرسمية لموقع الملك فاروق، على موقع فيس بوك، وفاة المؤرخ العسكرى اللواء أركان حرب جمال حماد عن عمر يناهز 95 عاما.
نعم كان ينبغى أن يكون وداعا حاشدا لواحد من أبرز المؤرخين العسكريين وأحد قادة ثورة يوليو التى كانت نقطة تحول مفصلية فى تاريخ مصر، بعد انتقالها من الملكية إلى الجمهورية، على يد الرعيل الأول فى التنظيم المعروفين من قيادات الضباط الأحرار، وهو الذى سجل بقلمه إرهاصاتها الأولى فى كتاب "22 يوليو أطول يوم من تاريخ مصر"، ثم كان قيما عليها من خلال كتاب "الحكومة الخفية"، وكان له الفضل الأول فى توثيق بطولات الجيش فى كتابيه المهمين "المعارك الحربية على الجبهة المصرية"، و"من سيناء إلى الجولان" ليترك لنا سجلا كاملا عن معنى البطولة والفداء للوطن.
وفضلا عما سبق، ترك الراحل العظيم للمكتبة العربية ذخائر أخرى من البحوث والدراسات التى ستظل علامات بارزة فى الفكر مثل "فى التاريخ الإسلامى - معارك الإسلام الكبرى - غزة بدر الكبرى - أعلام الصحابة"، إضافة إلى عدة كتب فى التاريخ المعاصر، وخاض تجربة الأدب فى روايتى "غروب وشروق - وثالثهم الشيطان" وتم تحويلهما إلى فيلمين سينمائيين.
اللافت فى سيرة جمال حماد المؤرخ العسكرى الذى ولد فى مدينة القاهرة فى 10 مايو سنة 1921، وتخرج فى الكلية الحربية منتصف أبريل عام 1939، أنه كان واحدا من العسكريين العظام، بحكم أنه كان يجمع بين الانضباط العسكرى والثقافة الموسوعية التى التى فتحت له آفاقا أوسع منذ بدأ خدمته العسكرية فى السودان، ثم انتقل لمنطقة القناة ثم إلى الإسكندرية، وأثناء الحرب العالمية الثانية، ومن ثم كان نموذجا فريدا فى عمله مدرسا لمادة التكتيك العسكرى والأسلحة فى مدرسة المشاة والكلية الحربية فى مصر بين عامى 1942 و1946، وفى أثناء توليه قيادة أركان حرب سلاح المشاة (قبل قيام ثورة يوليو)، حيث كان وقتها برتبة صاغ (رائد)، وكان اللواء محمد نجيب مديرًا لإدارة المشاة، ما أتاح له الفرصة للتعرف عليه عن قرب وازداد به وثوقًا، فانضم فى هذه الفترة لتنظيم الضباط الأحرار عام 1950 عن طريق صديقه الصاغ أ.ح عبد الحكيم عامر، واشترك فى الفعاليات الأولى لثورة 23 يوليو 1952، وكتب بنفسه البيان الأول للثورة الذى ألقاه البكباشى أنور السادات صباح يوم 23 يوليو من مقر هيئة الإذاعة.
إذن نحن أمام واحد من العسكريين المصريين الذين أفنوا حياتهم فى حب هذا الوطن، والدفاع عن ترابه المقدس بشرف فى ميادين القتال، وفى الحياة العامة استنادا إلى عقيدة عسكرية راسخة فى وجدان المقاتل المصرى من فجر التاريخ بأساس متين وصلابة لاتلين واهتمام بأدق التفاصيل، وهو القائل: سألت نفسى، كيف أكتب هذا البيان التاريخى - بيان ثورة يوليو - بأسلوب رصين، مجرد من أى أخطاء نحوية أو لغوية، حتى لا يستخف بنا أحد، سواء فى مصر أو الخارج، وأن يكون شاملا لجميع النقاط، التى نضمن بها سرعة انضمام الجيش والشعب إلى ثورتنا، التى كان نجاحها لا يزال فى علم الغيب، وكان الأمل فى انضمام الجيش والشعب إليها، كما أكد عبد الناصر، معلقا بهذا البيان، الذى شاء القدر أن أجد نفسى مسئولاً عن صياغته فى وقت ضيق، ودون أى استعداد سابق، وبعد عدة مسودات استقر الرأى على الصيغة النهائية، التى كتبتها على ورقة "فلوسكاب بيضاء" غير مسطرة بقلمى الحبر، ولم أقم بشطب أى كلمة بها سوى كلمتين فقط، ولم تستغرق كتابة البيان منى أكثر من نصف ساعة، عاد بعدها عبد الحكيم إلى الغرفة، حيث قرأ البيان فى اهتمام، وأبدى رضاه التام، وعرضته على عبد الناصر، فأبدى اقتناعه به وأقره على الفور.
وترتيبا عليه، لم يأت لقبه كمؤرخ عسكرى أو مؤرخ لثورة يوليو من فراغ، فالرجل أصدر عدة كتب عن الثورة وأسرارها فيما بعد بأسلوب الضمير الجمعى الذى يتسم برشاقة الأسلوب، وبلاغة الوصف ودقة التفاصيل والمعلومات، ويجدر بنا هنا أن نشير إلى نبوغه المبكر فى الكتابة، عندما قدم عدة أناشيد وهو مازال بسترته العسكرية ، منها نشيد المشاة الذى لحنه العقيد عبد الحميد عبد الرحمن ، مدير الموسيقات العسكرية بالجيش وقتئذ، وغنته المجموعة ليذاع من دار الإذاعة المصرية ونشيد "صرخة الأحرار" الذى لحنه الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وغنته المطربة الكبيرة "نجاة"، أما النشيد الثالث فكان بعنوان "يا رفاق المجد" وقد غنته المجموعة بلحن الموسيقار الكبير محمود الشريف، وقد أذاعته دار الإذاعة المصرية لشحذ الهمم عقب هزيمة 1967 ، وكذلك نشيد الكلية الحربية، والذى كان يذاع فى عهد الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا).
ولأنه واحد من كبار العسكريين الذين يدركون جيدا طبيعة هذه الأرض وكيمياء هذا الشعب المصرى، فكان طبيعيا جدا أن يتسم بالدقة فى توصيفه لثورة 25 يناير، فهى من وجهة نظره معجزة حققها الشعب البطل، لكن المأساة أن الشعب الثائر لم يكد يسمع أن الرئيس الأسبق حسنى مبارك تنحى عن الحكم، حتى اتجه معظم الثوار إلى المنازل، باعتبار أن ثورتهم نجحت، ولو كان للثورة قائد، لكان قد دعا الشعب إلى البقاء فى الميادين، التى كان محتشدًا فيها، حتى تتحقق أهداف الثورة، الأمر الذى دعا إلى محاولة أكثر من فصيل، خاصة الإخوان، تبنى الثورة وخطفها، ومحاولة إشعار الجميع أنهم أصحاب الفضل فى نجاحها، ما دعا البعض إلى القول إنهم سرقوا الثورة.
وبالنسبة لثورة 30 يونيو، يعتبر المؤرخ العسكرى أنها قامت لاستكمال وتصحيح مسار 25 يناير، وتحقيق أهم أهدافها، التى تتمثل فى العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى للإرادة الشعبية، فى مواجهة محاولات التدخل الخارجى، والتيارات السياسية المستترة بالدين، وهى نفس الأخطار التى واجهتها ثورة 23 يوليو، ولعدم وجود رمز وطنى لزعيم تحتشد المظاهرات تحت لوائه.
أما أصدق ماقاله من واقع خبرته العملية التى تؤكد فهمه العميق لطبيعة الظروف السياسية التى تمر بها البلاد ، يعتبر جمال حماد أن ثورة 30 يونيو تختلف كثيرًا عن 23 يوليو، موضحًا أن الجيش كله بجميع أسلحته ووحداته يدًا واحدة خلف القائد العام وقتها الفريق عبد الفتاح السيسى، أما بيان 23 يوليو، فإن الذين قاموا بالحركة كانوا لا يتجاوزون 90 ضابطًا، معظمهم من صغار الرتب، بينما باقى الجيش لم يكن شارك فى الحركة.
رحم الله المؤرخ العسكرى الكبير جمال حماد بقدر ما أعطى لهذا الوطن من خلاصة عقله وفكره الذى أضاء سماء المحروسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة