لطالما اعترضت على نظام الترقيات فى كليات الطب خصوصاً وقت كنت أقدم أوراقى للترقى والتى أؤكد أنى أتممتها جميعاً والحمد لله فأنا استاذ منذ اثنى عشر عاماً بل ورئيس وحدة، اقول هذا لأؤكد أن هدفى الصالح العام لا الصالح الخاص، وتقدمت بالفعل بطرح وكتبت على صفحتى وصفحات التواصل الاجتماعى الخاصة بالكلية والجامعة واخيرا اكتب هنا راجيةً من كل مصرى حريص على بلده أن يضم صوته لصوتى.
نعرف جميعاً أن نظام الترقى فى الجامعات والمراكز البحثية يفرض على الباحث تقديم العديد من الأبحاث كى يتم ترقيته، ويُلزِمه هذا النظام إلا تكون أبحاث الترقى هذه مأخوذة من موضوع رسالته فى الدكتوراه أو الماجيستير أو استكمالاً لهما، وألا يقوم أثناء الترقى أيضا بعمل بحثين فى موضوع واحد وإلا يعرض نفسه لأن يُضم بحثيه سويا على أساس أنهما بحث واحد، والباحث ملزم بعمل بحث منفرد أو بحثين منفردين أحيانا، ومحظور عليه أن يكون البحث مشترك مع أقارب الدرجة الأولى والدرجة الثانية ولا أفهم منطقاً لهذا أيضاً ولكل ما سبق إلا فقدان الثقة والذى أصبح يحكم معظم قراراتنا حتى طغى على فكرة العائد من وراء العمل ذاته، وكما على الباحث أن يبحث عن الجديد فى عالم العلم وليس عالم الإنسان المصرى، اقتداءً فى ذلك بأبحاث الدول الغنية التى لا تترك صغيرة دون بحث ولو كانت نسبة حدوثها واحد فى المليون، وغالبا ما يكون الجديد والغريب والنادر اكثر كلفةً ونظرا لضعف ميزانية البحث العلمى وضيق ذات يد الباحث وارتفاع تكاليف البحث العلمى ومستلزماته بوجه عام يضطر الباحث لأن يختصر فى الشغل العملى بصورة أو بأخرى، مثلاً كالتقليل من عدد الحالات او عدد التجارب التى يجريها عليها، ولذلك غالبا ما لا يصل إلى شىء معتبر وخصوصا وهو محظور عليه نفسه استكمال البحث فى فرصة أخرى، فضلا على انه غالبا ما تكون نقاط البحث وهماً يستحيل تطبيقه على مستوى المجتمع المصرى الذى تعوزه الرعاية الصحية حتى بالطرق التقليدية البسيطة. وفى غياب عائد لهذه الأبحاث على المريض المصرى يكون هذا اهدار للمال العام والخاص ايضاً فى حال اذا ما تكلف الباحث نفقات بحثه وليس جهة العمل او اضطر إلى المساهمة معها والذى فى الغالب الأعم ما يحدث، كما انه اهدار للطاقة وللعمر. ويكون فى النهاية مآل هذه الأبحاث والرسائل إلى الدرج مع زميلاتها فلا يسمع عنها احد اللهم الا النزر اليسير الذى يرى النور ويقبل للنشر فى المجلات العلمية الأجنبية وكان الأولى بنا فى هذا الغاء نظام بحث او رسالة لكل مواطن من الأساس والاكتفاء بنظام التقدم لامتحان لتقييم مستواه لترقيته اسوة ببعض الدول الأجنبية توفيراً للجهد والمال ولو اضطررنا ليكن بحثاً واحداً معتبراً كعمل جماعى مشترك لكل قسم يكون لكل فرد دور محدد فيه فكما يقول المثل "ضربة واحدة بالمطرقة خير من مئة بالسندان"
وليس الحال فى الغرب على النحو المعمول به عندنا فعلى ارتفاع امكاناتهم وارتفاع ميزانية البحث العلمى، والذى يتبناه وينفق عليه فى كثير من الأحيان الأغنياء وليس الدول فقط، نجد ونحن نقرأ ابحاثهم أن اولوية المواضيع تتحدد بأهميتها من حيث التخطيط القومى المدروس بالإحصاءات بلا عشوائية مطلقا، ثم فى الدرجة الثانية يأتى البحث فى تفاصيل الأمراض النادرة، كما اننا عادة نجد أن الباحث "فلان" متخصص فى المرض "س" يشاركه مجموعة من الباحثين المتخصصين مثله فى ذات الموضوع دون غيره فى عمل جماعى مشترك ( Team work ) لا يتغيرون، وقد يطول هذا لثلاثين وأربعين عاما وقد يزيد، مثال لذلك فريق عمل العالم المصرى أحمد زويل بجامعة كالتك الذى ظل طوال حياته يؤكد على أن هذا الفريق هو السبب فى نجاح أبحاثه، وقد يكون باحثا وأخاه كالأخوين رايت وميرسييه فرير أو زوج وزوجه كمدام وموسيو كورى، وكذا فى حلٍ من كثيرٍ من القيود التى نقيد بها بحثنا وباحثينا ! أن يشترك عشرون باحثاً فى بحثٍ واحد قيم ولو استغرق استكماله عشرات السنين ويتم تقييمه دورياً فى عدة محطات بطريق يكفل حقهم فى الترقى فى وظائفهم فى المواعيد المفروضة اى أن نقبل ببحثٍ واحدٍ مشترك محترم مهما طال امده ونعتبره جواز مرور كافٍ للترقى بدلاً من الزام كل باحث بعدة أبحاث صغيرة فردية غير مجدية ! هذا مع العلم بأن كل المجلات العلمية العالمية كما تحترم الجديد فى العلم تحترم الأبحاث التى تقام على أعداد هائلة من عينات المواطنين والتى تعرف باسم دراسات ابيديميولوچية epidemiological studies ) ) وتحظى عندها بترتيب ودرجات عالية عند تقييمها فى هذه المجلات وهذا من شأنه أن يرفع التصنيف العلمى لجامعاتنا ومعاهدنا البحثية عالمياً، فهذا النوع من الأبحاث والدراسات يحترم جدا لما يحقق من عوائد وتغييرات مجتمعية فعلية.
لماذا يغيب عن الحكومة المصرية فكرة التخطيط لمشاريع قومية يشملها البحث العلمى فى مختلف المجالات فى كل الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية المتخصصة ونترك البحث العلمى غير مبالين بهذه الحال من العشوائية والتخبط ؟ لماذا لا يحدد جهاز التخطيط الحكومى مشكلاتنا القومية حسب أهميتها وأولوياتها احصائياً بعد الاستعانة بالمتخصصين فى كل مجال ويسخر لها، بعد جدولتها على حسب الأهمية لا سيما زمنيا لخمس او عشر سنوات، ويلزم بها كل القوى المعنية حتى تنتهى منها، فعلى سبيل المثال فى الطب توجه الجهود لمكافحة فيروس "سي" او "انيميا البحر الأبيض المتوسط" او " الفشل الكلوي" وغير ذلك مما ينتشر فى مصر من امراض، وقد سبق وعنيت الدولة بمكافحة البلهارسيا وتعاونت كل مؤسسات الدولة حتى تمكنا من القضاء على هذه الكارثة الصحية التى كان قد ابتلى بها الشعب المصرى حصرياً وكما نجحت الدولة بتعاون الإعلام ووزارة الصحة فى مكافحة النزلات المعوية والإلتهاب الرئوى اللذين كانا يشكلان السبب الرئيسى فى وفيات الأطفال ؟ ويتحقق ايضاً فى اقسام الفيزياء فتتبنى مثلاً مشروعاً لاستغلال الطاقة الشمسية التى لبلادنا النصيب الأوفر منها، على مستوى كل المراكز البحثية وكذا طاقة الرياح فى بعض الأماكن والمواسم كمصادر للطاقة النظيفة جنباً إلى جنب مع الطاقة النووية وفى اقسام الكيمياء التنقيب عن البترول وتصنيع الزجاجيات من السيليكا ورمال الصحراء تملأ ربوع مصر ! وفى كليات الزراعة تدوير القمامة واستغلالها كمصدر للطاقة او مخصبات للتربة او معالجتها كاعلاف وهكذا بحيث يكون هذا إلزاميا، فنفيد ونستفيد.
لماذا لا يكون هناك نصاً دستورياً على وجوب التنسيق بين البحث العلمى ومتطلبات الواقع المصرى حفاظا على المال العام وحرصاً على عدم اهدار الطاقة البشرية وتوظيفها فى خدمة المجتمع ؟ والا يكون هناك قانونٌ يضمن هذا ويحميه ؟ اعلم أن قصر العينى يحاول مشكوراً توجيه ابحاثه ولكن تظل دائما شروط الترقى مكبلة ومقيدة نوعاً ! ليتنا نسعى جاهدين لا كى نخفف العبء على الباحث فالعبء واقعٌ عليه فى هذا وذاك وهذا عمله يؤديه راضياً ولكن كى نمكنه من تقديم ما هو افيد وانفع للجامعة وللمراكز البحثية ولمصرنا الحبيبة.
وحتى يتحقق هذا وتتبنى الدولة التخطيط على مستوى مؤسساتها ككل، نقول ما لا يدرك كله لا يترك كله اخاطب زملائى فى المنظومة الصحية على الأقل كلاً فى موقعه بقدر ما له وللمؤسسة التى يعمل بها من سلطات أن يعمل على تحديد نقاط البحث العلمى بعد دراسة مجتمعية متفحصة مترابطة ويخطط للمواضيع ذات الأولوية بما يفيد القضايا الصحية القومية المنتشرة فى مجتمعنا المصرى على وجه الخصوص ومحاولة توحيد الجهود وتركيزها وتكريس كل الأبحاث على مستوى القطر المصرى لخدمتها ولعلها تكون لتلك المنظومة الريادة كما كانت دائما، وتهتم بتقديم ابحاث تفيد الخدمات الصحية للمواطن تصب فى مصلحته مباشرةً اكثر من اهتمامها بالأوراق والملفات والشكليات التى كادت أن تصبح همنا الأول !! فكلنا مسؤولون.
• أستاذ بطب قصر العينى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة