حين تشكو الذات من قسوة الظروف، حين تلعب دور الضحية، فتتلذذ بتعذيب نفسها، حين تنصت لصوت الألم وتستكين بغباء، تفيض الدموع، وتحصر نفسها فى الشكوى، لتجعل من اللغة وسيلة للتلذذ بالعذاب لتفصلها عن واقعها وعن حقيقتها، كونها تجسيدا ماديا لعالم الفكر من خلال التواصل...
عندها تصبح اللغة تحت سيطرة العواطف والأحاسيس السلبية القاتلة لمفاهيم إنسانية جميلة كالحرية والمسئولية والاختيار والإرادة والقدرة، ماذا سيبقى للإنسان إذن بعد سلب كل صفات الذات؟
شكله؟ جسده؟ مظهره الخارجى الفانى والمتغير؟ أين هو الجوهر إذن كمكون حقيقى للذات...........؟
هكذا ستستعمل اللغة كوسيلة لتدمير الذات عند إدخالها فى قفص العواطف، عندما يحاصر العقل التحليلى لينطلق العقل العاطفى معبرا عن نفسه، وليقوم بوظيفته للدفاع عن الذات سواء بالهجوم أو الهروب. آنذاك تصبح اللغة وسيلة للهروب من الظروف والواقع والهجوم على الآخر بنوع من الفصاحة والتحليل الاستكانى.
هكذا تزيغ اللغة عن الطريق متخلية عن الفكر مرتبطة بالعواطف تسبح بنا فى عالم المستحيلات عوض الانطلاق إلى عالم الممكنات بتكوين صورة ذهنية قبلية عن الفعل بوضع خطة استراتيجية لتترجم فى برنامج عملى من أجل تغيير مجريات الأحداث...
لقد أصبحت لغة تعجيزية تدخل الإنسان فى عالم المستحيلات فتحد من كل قدراته وتشلها تحث شعار الظروف والظرفية الراهنة.
إن حكاية الإنسان عبر التاريخ تؤكد أنه حين يرتبط الفكر بالخيال كمجال للممكنات اللامحدود يصنع المعجزات، وأن تفوق الإنسان فى قدرته عليه، والعكس كلما وضعنا اللجام على الخيال إلا ووضعنا حدودا خيالية لقدراته معتقدا أنه محدود الطاقة وأن القدر لم ينصفه وأن سوء الحظ يراوده على الدوام.. تبدو إذن أن صفات الفرد هى من تحدد مصيره، وأن الذات من تصنع من صاحبها بطلا أو جبانا أمام أشباه الأشباح التى قد نراها.
لماذا طرح إينشتاين سؤالا طفوليا: هل يمكن أن نسافر عبر الزمن؟
ولم يستحِ من طرح سؤال مستحيل كهذا ومن مواجهة ذوى الفكر والعقول المحدودة. ولكن كانت مساحة الممكنات فى فكره أكبر من مساحة المستحيلات، والنتيجة لا زال العلم يشتغل فى المسألة مبحرا فى خياله المعرفى، ولأن فضول الإنسان المعرفى انشغل بالكيفية ومن تم البحث عن اختراع اسمه آلة السفر عبر الزمن......فانطلقت الأعمال الفنية فى السينما تعبر عن هذا الانشغال العلمى الكبير، وفتح الباب بمصراعيه فى الفن فأبدعوا فى تناول الموضوع من زوايا شتى ثم بادروا بالتساؤل عن ممكنات أخرى: ما الذى سيحصل لو سافر الإنسان عبر الزمن هل سيغير فى ماضيه ويصلح زلاته؟.
وتستمر الحياة فى عالم الممكنات لتعطى للحياة معنى، والذى من دونه تقف الحياة على وجه الأرض. وعندما يتكلم التاريخ عن حكاية هذه الأرض وكيف أن الطبيعة فى بدايتها كانت مصدر قهر، وأمام قسوتها وجبروتها قرر الإنسان أن يصبح سيدا عليها بعدما كان يضطر للتر حال خوفا من الجوع وقسوة الظروف، استطاع أن يصبح مالكا لها وملكا عليها، لقد أخطأ كثيرا وأخل بتوازنها. ومع ذلك يستمر ويناشد العقل بالحلول لا العواطف والبكاء، فكم من نظرية علمية عمرت طويلا وتم تجاوزها، بل وأن من صفات النظرية العلمية هو قابليتها للتكذيب.
وأعود لأقول عندما يتعلم العقل كيف يتكلم عن الأحداث عوض الخروج منها، يبدع فيما برمج عليه وتصبح التلقائية هى الغالبة على سلوكا ته لأنها نتيجة طبيعية للعقل الباطن الخاضع للبرمجة كوضع مريح مألوف، عندها يبدو بطلا فى الشكوى فيما حصر نفسه فيه، والحقيقة أنه يخاف التغيير ويخاف أكثر توقعاته....
لقد برمجت الذات على أساس أن الظروف تلعب دورا كبيرا فى توجيهها وتوجهها وأن المستحيل له نسبة أكبر فى مساحة الفكر، وكأن المنطق دائما يفسر واقعنا...
فهل سيقذف الإنسان فى الفعل بهذه البرمجة؟ من هو البطل؟ هل من يصارع الظروف أو من يصارع نفسه ويعيد برمجة المعانى فى العقل الباطن؟
لقد تعلمت الذات من الحياة أن الدمع يخدعها ويرمى بها فى بحر الألم والاستسلام وفى عالم الهزيمة. وأن عليها أن تمسح دموع الخسارة حين تسقط فترفع عيناها للأعلى لتنظر إلى السماء وتعرف أن للكون رب يدبره وأن الامتحان حامل لمعنى وجودنا، وأن التفاؤل شمعة تنير درب المعاناة، ليعود الأمل من جديد فتنهض محاولة بنوع من التحدى والاستمرار والصبر.
وفى همس تقول: فالمسألة تتلخص، فى إما أكون أو لا أكون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة