قام الشعب البنمى بمظاهرات صاخبة ابتهاجا بنجاحهم فى إبعاد الأمريكيين عن «قناة السويس.. بنما»، والسيطرة عليها باعتبارها قناة يملكها مواطنو بنما فقط، وقالت صحيفتا «هيرالد تريبون» و«نيوز ويك» الأمريكيتان: «هذه الإجراءات القانونية الانقلابية فى السلطة جاءت- حسب ما اكتشفته السلطات الأمريكية فى بنما- نتيجة وجود جاسوس مصرى لعبدالناصر مكث عدة أيام، واتصل بجميع الأعضاء البنميين وأثارهم ليتخذوا هذه المواقف العدوانية ضد الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنهم لم يحصلوا على الاسم ولا الصورة لهذا الجاسوس».
من يكون هذا الجاسوس؟ وما هى حقيقة هذه القصة المجهولة التى بلغت ذروتها فى مثل هذا اليوم «6 أغسطس 1959» بانقلاب البنميين ضد سيطرة أمريكا على قناتهم التى تمر بها السفن بين المحيطين الأطلسى والهندى؟.
الإجابة تأتى فى كتاب «عبدالناصر وعرب المهجر» لـ«فتحى الديب» ضابط المخابرات المصرية وأحد مؤسسيها، والحدث يأتى فى سياق لم يتم تسليط الضوء عليه بما فيه الكفاية وهو محاولات مصرية عظيمة للتواصل مع الجاليات العربية فى دول أمريكا الجنوبية، وحدثت بسفر «الديب» إليها فى جولة سرية طويلة فى شهرى يونيو ويوليو 1959، وشملت البرازيل والأرجنتين وبنما والمكسيك وأورجواى وتشيلى، ويشير الديب إلى أن وحدة مصر وسوريا «1958 - 1961» كانت دافعاً لذلك لأن الجاليات العربية فى القارة هى من سوريا ولبنان، ويؤكد أن هذه الخطوة تمت بعد دراسة وافية قام بها مع مساعديه استمرت نحو 6 أشهر، وناقشها باستفاضة سراً مع جمال عبدالناصر، وبدأ التنفيذ بسفر «الديب» إلى المكسيك يوم 24 يونيو 1959.
فى 7 يوليو وفى السابعة صباحاً كان «الديب» يفطر بالفندق فى بنما، وفى العاشرة صباحاً التقى بالسفير محمد التابعى فى سفارة الجمهورية العربية المتحدة «اسم وحدة مصر وسوريا»، وشرح له طبيعة مهمته، وطلب تزويده بمعلومات عن الشخصيات العربية الموجودة فى بنما؟، ووضع الجالية اليهودية، وعددها 25 ألف يهودى يعملون فى التجارة ولهم تأثير سياسى، فى مقابل 5 آلاف عربى خليط من السوريين واللبنانيين يتعرضون لضغوط من اليهود لتهجيرهم.
تواجد «الديب» تحت ستار إعداده لرسالة دكتوراه عن قناة بنما، وبهذه الصفة التقى بمسؤولين عن إدارة القناة، ومنهم مديرها الأمريكى ونائبه البنمى ورئيس نقابة العمال «بنمى»، ويقول إن السفير «التابعى» انتظره بعد لقائه بالمدير الأمريكى، مبدياً خوفه من أن يكون أخطأ فى حديثه فتظهر حقيقته ويتم القبض عليه، فرد الديب: «لو كنت ذلك الرجل الذى تتصوره ما كلفنى الرئيس عبدالناصر بأن أقطع هذا المشوار الطويل لأضعه فى مأزق بلا مبرر».
فى لقاءات نائب مدير القناة ورئيس نقابة العمال دارت مناقشات حول، الصدام المستمر مع الأمريكيين، وأسئلة تفصيلية لـ«الديب» عن تأميم قناة السويس والسيطرة عليها كاملاً، وأمام ذلك استفسر «الديب» منهما حول ما إذا كانت النية تتجه لسيطرة البنميين على القناة، فرد نائب المدير: «نعم وأملنا بالنيابة عن شعب بنما نقل هذه الصورة إلى الرئيس عبدالناصر لثقتنا به، والحصول على تأييده لنا»، وبعد لقاءات أخرى تناولت تفصيلياً نفس القضية طلب الديب أن لا يتم تنفيذ شىء وهو لا يزال موجوداً فى أى دولة من دول القارة حتى لا يتم ربط ما يحدث بوجوده، وسافر إلى البرازيل، وفى يوم 5 أغسطس اتصل منها بنائب مدير القناة البنمى، وأبلغه بعودته للقاهرة 7 أغسطس.
نفذ البنميون خطتهم يوم 6 أغسطس بعد أن علموا بتسريب خططهم إلى الإدارة، وقرأ الديب فى صحيفتى «هيرالد تربيون» و«نيوزيك» وهو فى الطائرة عما حدث، وأن جاسوساً لعبدالناصر مكث عدة أيام فى بنما لهذا الغرض.
ويضيف الديب أنه أمام احتمال معرفة هويته فى الطائرة فكر فى العمل، وبالمصادفة كان بجانبه مهندس أمريكى مدمن خمر: «اتخذت من أسلوبه فى احتساء الخمر أفضل وسيلة للتمويه فطلبت الخمر، وبصورة خفية كنت أضع ما أطلبه فى كأسه وادعى أننى شربت كل شىء، وأصبحنا نعيش كمدمنى خمر على الطائرة مما جعل الجميع يتفادى الاقتراب منا، وبهذه الوسيلة تجنب الجميع الاحتكاك بى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة