كأن القدر فاجأنى بهذه الرحلة لأداء العمرة فى الثلاثة أيام الأخيرة، بل أحسست أنه ترتيب من الله عز وجل، إذ شعرت أننى فجأة فى الأراضى الحجازية، إحساس روحانى غريب كأن يقتحم كل مشاعرى، لا أعرف كيف أصفه ولا أعرف أيضاً كيف يمكن أن أحتويه.. لقد منحنى الله فرصة أداء العمرة أكثر من مرة.. بل مرات عديدة.. ولكن هذا العام كل شىء أصبح جديداً بصورة أدهشتنى.. فقد كان الزحام الشديد هذا العام كبيراً، لدرجة أننى لم أره من قبل حتى فى أيام الحج.. خاصة فى الثلاثة أيام الأخيرة من عمرة رمضان، وكذلك ليلة خاتمة القرآن الكريم.. ورغم قصر الرحلة فقد كانت ممتعة جداً.. وتيقنت أن الله سبحانه وتعالى ييسر لى كل خطوة، وكنت أنا وأصدقائى ممسكين بعضنا البعض فى رباط قوى.. لدرجة أننى كنت أشعر وأتأكد أننى تحولنا إلى شخص واحد.. بمشاعر واحدة وروح واحدة.. كم كانت هذه الأيام القليلة زاخرة بالمعانى العميقة، وكم كانت الساعات تتوالى كأنها تسابقنا وأسابقها، وأحاول أن أشدها حتى لا تجرى منى.. كل لحظة من هذه الأيام كانت مليئة بالدفء الروحانى والزخم الدينى العميق.. والتوغل فى أسرار هذه الأراضى المقدسة التى أبداً لا يمكن الوصول إلى مفرداتها وإلى معانيها، كم كانت هذه الرحلة السريعة موحية لى بكثير من المفردات الإنسانية الكثيرة، وكم كانت شديدة الثراء، بحيث إنها شدتنى إلى الماضى وجعلتنى أستجمع كل الذكريات بكل ما فيها من تضاد وتلاق وفراق للأحباب، حيث صورة أمى رحمها الله التى لن تزول من مخيلتى، وحيث صورة شقيقتى رحمها الله.. أحتوى هذه الصورة الجميلة وكأنى أراهما فى الجنة.. برغم مرورها سريعاً من أيام عيونى، وبرغم أنى أحاول أن أستعيدها وأثبتها فى حائط عمرى، كل لحظة كانت شديدة البهاء والبريق خاصة لحظات الطواف، حيث أحس معها أن جسدى كله يطير نحو روحانيات تتخلل كل خلاياى، وتنتفض بى نحو المجهول، حيث يتهيأ أمامى سر كأنه السر الأعظم.. أما ليلة الخاتمة أثناء دعاء الشيخ السديسى بالحرم المكى فهذا وحده كان كافياً، لأن يغسل روحى وكل كيانى.. كم كانت هذه الأيام زاخرة بالمعانى العميقة وكم كانت الساعات تتوالى كأنها تسابقنا وأسابقها، وأحاول أن أشدها حتى لا تجرى منى.. كل لحظة تسكن بداخل دمى، خاصة اللحظات الروحانية أثناء الطواف فى الكعبة.. كانت رحلة العمرة سهلة دافئة ولم أحس بأى نوع من الإرهاق.. بل كنت أحس أننى أطير من السمو النفسى والروحانى.. كم كنت هادئ النفس وراضى السريرة، وأحس أننى برغم كل الزحام والجو أننى أعيش فى أرض أخرى وسماء أخرى، وحياة جديدة تنبض بالأمل فى غد أفضل ملىء بالعبق الروحى.. مازلت أستمتع بهذا الكيان الذى سكن جسدى، لأنى أحس أنه ترتيب إلهى وليس ترتيبا بشريا، لهذا رأيت نفسى تنتقل إلى دنيا أخرى غير تلك الدنيا التى أعرفها.. زيارة غريبة غير كل عام.. وغير كل الزيارات السريعة إلى المدينة المنورة أو أرض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حقاً كانت عمرة هذا العام مميزة كأنها أول مرة بالنسبة لى.. اغتسلت نفسى واغتسلت روحى واغتسل جسدى بهذا البريق الشفاف من الروحانية التى يملأ كل خلاياى، وتتمدد وتغير من كل ما بى.. وترتقى بأحاسيس وبنظرتى للناس بل لكل ما حولى.. بعد هذه الرحلة لم أعد أحتاج إلى أى شىء من الدنيا.. أتمنى من الله أن يتقبل عمرة هذا العام، وأن تظل كما أحس.. تعيش فى كيانى وفى كل خطوة من خطوات حياتى، وكأننى أعاهد نفسى أن تتغير كل ملامح خطواتى القادمة.. أعاهد نفسى ألا أعود إلى ما كنت أهرب منه.. وأهرب من كل ما كنت أنوى أن أعود إليه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة