هل قابلتك يوما مشكلة فى جهاز الكمبيوتر الخاص بك أو فى هاتفك المحمول أو سيارتك؟! أكيد طبعا، وهل يخلو جهاز من خلل يطرأ عليه يوما ما؟ وهل تخلو سيارة من صوت مزعج يظهر من مكان ما آجلا أو عاجلا؟! لا شك أن أول ما يتبادر إلى ذهنك لما جهازك «يهنج» أو حين يظهر هذا الصوت المزعج فى سيارتك هو التساؤل عن سبب هذا العطل ومصدر هذا الصوت.. بداية محاولاتك لمعرفة هذا السبب تكون غالبا بمحاولة إدراك النمط أو الاصطمبة، وجود اصطمبة واضحة وثابتة يسهل المهمة دائما! يعنى مثلا هذا الصوت المزعج يصدر من السيارة حين تستدير عجلة القيادة إلى اليمين بشكل حاد أو مفاجئ.. جهاز الكمبيوتر بيهنج بعد مدة محددة من استعماله.. الهاتف الجوال يغلق وحده حينما أقوم بتشغيل أكثر من تطبيق.. وهكذا.. لكى تستطيع ضبط الشكوى تحاول الوصول لفهم نسق المشكلة ابتداء وتسعى لقولبتها فى اصطمبة ثابتة وواضحة ليسهل عليك بعد ذلك حلها والأمر لا يقتصر على المشكلات وحسب، إدارة الحياة تحتاج أحيانا إلى اصطمبات فى الصناعة، مثلا تشكل فكرة الاصطمبة جزءا أصيلا من العديد من الصناعات بل تعود تلك التسمية أصلا إلى قوالب تشكيل المعادن وسك العملة واسمها اللاتينى Stamping ولكن بجانب هذا المعنى كان هناك مفهوم مصاحب للمعنى وهو إنتاج منتجات متماثلة تماما من حيث الشكل والوزن والحجم.
ونظرا لمفهوم الإنتاج الكمى السريع الذى ظهر الاحتياج إليه بشده فى الحرب العالمية الأولى والثانية ظهرت أنواع عديدة من الاصطمبات لتخدم الإنتاج الكمى فى مجالات الصناعة المختلفة الثقيلة منها والخفيفة وإلى اليوم يسعى كثير من أصحاب الحرف لتسهيل مهمتهم من خلال تثبيت اصطمبات لصنعتهم، وكذلك يسعى الإنسان المنظم لشىء شبيه يصلح لإدارة حياته بصورة أسهل من خلال تثبيت أنساق وأوراد محددة تناسبه وتيسر من إنجازه لما هو مطلوب منه، كل هذا ليس فيه أى مشكلة، المشكلة الحقيقية تكمن فى أولئك الذين قرروا تعميم نظرية الاصطمبة على البشر جميعا..
سواء فى ذلك من وافقوهم فقرروا قولبتهم فى نفس صورهم وجعلهم نسخا متطابقة ومطابقة لهم ولأفكارهم ولأحلامهم وطموحاتهم وأيضا من خالفوهم فقرروا المسارعة إلى تشخيص خلافاتهم ومشاكلهم معهم بإلصاقها وإلصاقهم بأقرب قالب جاهز ومعيوب فى نظرهم، متجاهلين بذلك حقيقة مهمة للغاية «الإنسان أعقد كثيرا من الجمادات» الإنسان ليس قطعة أثاث يسهل استنساخها ولا هو جهاز بارد يسهل تنميط عيوبه وقولبة مشاكله بشكل بسيط وسطحى وكأن البشر جميعا ينبغى أن يكونوا «اصطمبة» واحدة ليس فيها تفاوت نسبى أو اختلافات وتفاصيل لا تعد ولا تحصى والشيطان يكمن فى التفاصيل.. فكرة إما مثلى أو مثل ما أريده وإما هو شيطان فاسد أو خائن متآمر هى النتاج الطبيعى لتلك المصيبة الفكرية التى طغت علينا، مصيبة استسهال التنميط وسرعة القولبة.. عقلية الاصطمبات الجاهزة إنها عقلية لا تسمح ولا تفهم ولا تقبل أن الله خلق الخلق مختلفين طبائع ونفسيات وأفكارا مختلفة، تفاصيل ودقائق وصفات يندر بل يستحيل أن تتطابق بنسبة مائة بالمائة
لقد حرص نبينا على إبراز ذلك التنوع والتفاصيل فى عشرات المواضع وبين الفوارق بين الناس حتى الكافرين منهم والمنافقين إنه منهج القرآن الناصع الذى يظهر ساطعا فى قوله تعالى: «لَيْسُواْ سَوَاءً» «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» ربك خلقهم هكذا.. مختلفين.. جعل لكل منهم شخصيته المستقلة وخصائصه المتفردة وتفاصيله التى ينبغى أن تراعى عند معاملته أو تقييمه، فما بالك أيها المقولب تصر على عكس ذلك وتظن أن بإمكانك قولبة الجميع وتحويل البشر إلى مجرد «روبوتات» آلية تنتجها اصطمباتك الجاهزة لا لشىء إلا لتسهل على نفسك المهمة وتنسى أو تتناسى أن تلك الاصطمبات قد لا تليق بهم، لأنهم ببساطة.. بشر.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة