لا يتصور أحد منا إطلاقًا أننا يمكن أن نصل إلى الحرية المنضبطة التى أقرها الدستور وتقرها القوانين، حرية يمكن أن تجد سبيلها إلى التطبيق العملى ولا يمكن إطلاقًا أن نقتنع بعد ثورتين أن المذهب الفردى المستغل فى الحياة السياسية والاقتصادية (من خلال كل فرد منا على حدا)، قادر على تحقيق مصالح الأقوياء والضعفاء معًا.
وذلك ببساطة لأن الفرد قد يكون قادرًا على أن يحقق مصالحه الشخصية ومصالح الأقوياء وحدهم، أما مصلحة الضعفاء، أما مصلحة المجموع (المجتمع ككل)، فتظل بلا تحقيق أمام قوى الأقوياء، أكثر من ذلك لقد أثبتت كل النظم الفردية المطلقة (كالنظام الرأسمالى مطلق العنان)، وهو التطبيق الصادق القائم على المذهب الفردى، أنه فى حد ذاته، لا يقدر دائمًا على حل المشكلات الاقتصادية للمجتمع ككل، ذلك أن الرأسماليين يسعون دائمًا إلى تحقيق أكبر ربح ممكن، وهم فى هذا السبيل كثيرًا ما يخطئون التقدير، ومثل ذلك نجدهم يسرفون فى الإنتاج رغبة فى تحقيق المزيد من الأرباح، والنتيجة تنهار الأسعار ولا تصرف المنتجات وتقع البطالة ويتشرد العمال وهذا ما حدث فى أوروبا وأمريكا فى فترة الأزمة الاقتصادية العالمية، وتتكرر القصة فى كل مرة يحاول فيها الرأسماليون بدافع مصالحهم الفردية أن يتوسعوا فى الإنتاج، وهذا هو الواقع الثابت الذى لا يستطيع الرأسماليون أنفسهم أن ينكروه، ولا يستطيع الفرديون أن يكابروا فيه.
ومن هذا الواقع المخل بفكرة "العدالة الاجتماعية" وتفضيل مصلحة الفرد التى تجب بمصلحة المجتمع يتأكد لنا أن أى نظام رأسمالى حر غير منضبط لا يستطيع ولا يقدر إطلاقًا أن يضمن السعادة للمجتمع بأكمله، ولا يحمى حقوق الضعفاء على وجه التحديد، بل هو بعد فترة لا يستطيع وحده (دون دعم الدولة) أن يستمر حتى فى حماية حقوق أصحابه الأقوياء، لأن الرأسماليين اعترفوا على مدار التاريخ المعاصر بشدة احتياجاتهم للدولة، لتتدخل لتساندهم فى إعادة التوازن الاقتصادى والاجتماعى حتى لا تنهار الرأسمالية.
وأمام هذه الوقائع الصارخة كان لا بد من أن يتغير المنطق السائد، وقد شاهدنا التغيرات التى طرأت على السياسة الفردية فى كل من الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا فى العشر سنوات الماضية، وإن كانت هذه التغيرات ظلت قائمة فى الإطار الرأسمالى ولكن المنضبط الإيقاع من خلال إدارة الدولة. وهو ما يؤكد لنا إذًا أن الفردية بمعناها المطلق الذى يعنى إعطاء كامل الحرية للأفراد ويعنى ألا تتدخل الدولة فى الشئون الاقتصادية والاجتماعية، لا وجود لها حتى فى العالم الرأسمالى كما يدعى البعض ممن يسمون أنفسهم تقدميين، وذلك لأن الدول الرأسمالية نفسها قد تنكرت لمبدأ الحرية الاقتصادية والاجتماعية المطلقة، وبدأت الدول تحت ضغط الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية العنيفة والمتكررة تخرج عن مبدأ الحرية غير المنضبطة وتسلك سبيل الحرية المنضبطة (أى سبيل تدخل الدولة عند الحاجة فى وقت الأزمات).
واليوم أصبحت أغلب دول العالم تؤمن بتدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، تتفاوت من فترة إلى أخرى وحسب الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ومع تكرار الأزمات، ولا يصح أن نطيل الجدل فى المقارنة بين الحرية المطلقة وتدخل الدولة فتلك المناقشة انتهت حتى فى العالم الرأسمالى، ولم يعد أحد يثير موضوع الحرية الطلقة وموضوع تدخل الدولة (إلا نحن فى بعض الدول الأخذة فى النمو) بل انتقل السؤال الى موضوع أكثر عمقًا وهو التدخل من جانب الدولة فى ضبط إيقاع النشاط الاقتصادى ودفع الاستثمار يجب أن يذهب الى أى مدى؟
وعلى الإدارة المصرية أن تقف هنا كثيرًا وتتذكر أنه فى الماضى القريب قبل قيام ثورة يناير 2011 وباسم الحرية الاقتصادية المطلقة العنان استطاع الأقوياء أن يستغلوا الضعفاء فى هذا الوطن، وباسم الحرية الاقتصادية أيضًا انهار نظام سياسى كامل دام أكثر من ثلاثين عامًا. وعلينا اليوم أن نصحح المسار الاقتصادى دون إعادة اختراع العجلة من جديد.
• أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
صفوت الكاشف*
///// علينا اليوم أن نصحح المسار الاقتصادى /////
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد الدميري
الله عليك يادكتور .. انت تقول ما اتمناه وانادي به بداخلى لكن صوتك مسموع عنى