تتطلب التحولات الديمقراطية عبر التاريخ مجموعة مقومات سياسية دقيقة المعالم، ليس ضمنها بالتأكيد مصطلحات تغرق فى العمومية دون منطق تستند إليه. بعد ظهور نتائج الانتخابات التونسية واقتراب موعد انتخابات البرلمانى المصرى، بدأ يتردد كثيرا على الصعيد العربى تعبير الثورة المضادة.
الرسائل التى حملها فوز السياسى المخضرم الباجى قائد السبسى الذى أسس حزب النداء منذ عامين فقط، لا تتدنى إلى تفسيرات مبهمة بقدر ارتباطها بالتحولات التى طرأت على الشارع التونسى منذ أربع أعوام. "ثورة الياسمين" التى تصدرت قائمة الثورات العربية المسروقة، والتى قامت بها شعوب ذات عقيدة مدنية، ونادت بمطالب مدنية، ثم ذاقت تونس صدمة خيبة الأمل فى تيارات دينية أدمنت عبر عقود المناورات فى العمل السياسى، فالشعب هناك لم يتحول فجأة إلى كتلة "فلول" حين اختار معاقبة لصوص ثورته، واضعا حدا لكل محاولات جر التجربة التونسية إلى الوراء على يد التيارات الدينية بعدما قطعت تونس أشواطا فى مشروعها التنويرى والتحديث الذى قاده الحبيب بورقيبة رغم كل المآخذ السياسية على فترة حكمه. اختارت تونس سياسى محنك لم يتورط فى إفساد الحياة السياسية وانتصر انحياز الشعب لفكرة التنوير، الإشارة الأهم التى ينبغى على الأحزاب المصرية التقاطها من حزب النداء، إن قوة الأحزاب لا تُقاس دائما بالمدة الزمنية بقدر نجاحها فى التعبير عن توجه الشارع.. فهو "الرادار" الذى عليها اتباع مؤشراته.
التعقيدات التى فرضتها التدخلات الإقليمية والعربية على الثورة السورية قلصت فرص نجاح كل المبادرات المختلفة التى طُرِحت، سوريا وقعت بين رحى حرب دموية لن يضع لها حد بقاء أو رحيل بشار الأسد. بعدما انتهت ثورة مدنية رفعت مطالب عادلة إلى اقتتال دموى بين تنظيمات جهادية مزقت أشلاء سوريا. المسار السياسى الذى تسعى مصر إلى طرحه - وهى تتمتع بقبول من طرفى النزاع فى سوريا - حلا للمأساة السورية يبدو الأقرب إلى الواقع، حال توافر النوايا الجادة لدى الطرفين النظام الحاكم والمعارضة على حقن الدماء. كما إنه يُعيد القرار السياسى إلى الشعب السورى فى التوافق على بدائل تتوافر فيها القوة والحد المعقول من الوفاق الشعبى العام، حتى شخصية من داخل الجيش أو من النظام، بعيدا عن عائلة الأسد، دون الحساسية المفرطة من أوهام مصطلح الثورة المضادة، قادة المعارضة والشعب قد يصلا إلى توافق على شخصية كانت تمارس العمل السياسى خلال حكم الأسد، لكنها قطعا لن تغفر لمن تلوثت أيديهم بالدم السورى.
لذا، مع كل مشروعية المخاوف التى تواكب الانتخابات البرلمانية القادمة فى مصر، وحجم المال السياسى الذى سيُنفق.. إلاّ أن اختزال الوعى العام فى "شماعات"- مثل الثورة المضادة أو غيرها - كى تُعلِق عليها الأحزاب السياسية ضُعف أدائها لا يتفق منطقيا ولا سياسيا مع "الرادار" الذى سيوجه اختيارات الناخب، والذى قطعا سيعاقب الأسماء المتورطة فى إفساد الحياة السياسية إذا ما غامرت بخوض الانتخابات، لكن بعيدا عن النزعة الانتقامية من شخصيات لمجرد مشاركتها فى العمل السياسى عبر عشرات السنين الماضية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة