نستأنف الإبحار فى مُحيط المفكر الوطنى العظيم الدكتور جلال أمين كإسهامٍ متواضعٍ فى الاحتفاء بعيد ميلاده الثمانين يوم 23 يناير بإذن الله.. وكنتُ قد ذكرتُ كيف ازداد حُبّى لجلال أمين بعدما لَمَستُ جانباً فى شخصيته كان مجهولاً لى.. وهو أنه كاتبٌ مُقاوِمٌ غير هادفٍ للربح.. كاتبٌ يتصدّق بإنتاجه وربحه لصالح وطنٍ أو وفاءً لصديقٍ.. ورويتُ قصة إسهامه فى إنقاذ مصر مما سُمّى مشروع الصكوك بكتابه «مشروعٌ شيطانى - تحويل القطاع العام إلى صكوكٍ للبيع».
فى نفس السياق، هناك قصةٌ أخرى لكتابٍ آخر مِن أروع كُتُبِه.. فمنذ عدة سنواتٍ وجدتُ فى قائمة مراجع أحد الكُتُب كتاباً لجلال أمين عنوانه «قصة ديون مصر الخارجية من عصر محمد على إلى اليوم» والمقصود بكلمة «اليوم» هو 1987.. لم أعثر على أى نسخةٍ من الكتاب فى كل المكتبات المعروفة.. فسألتُ الدكتور جلال عن أين أجد الكتاب قال لى ضاحكاً «لن تجده.. تعالَ لأُهديك نسخة».. فى مقدمة الكتاب النادر كَتَب جلال أمين الإهداء التالى: «إلى على مختار (1935 - 1987) الذى عاش طامحاً إلى تحقيق الاستقلال الكامل لنفسه وبلده، ومات وقد حقّقه لنفسه ولمّا يتحقق لوطنه».. وعلى الغُلاف الخلفى اسم ناشر الطبعة الأولى «والأخيرة» دار على مختار للدراسات والنشر.
على مختار هو أحد أصدقاء جلال أمين المكافحين.. أنشأ داراً للنشر واختطفه الموتُ فجأةً.. فأهدى جلال أمين أحدث كُتُبِه «وقتها» للدار التى آلت إلى صِغارِه.. فطبعت هذه الطبعة وانتهى الأمر وأصبح الكتاب عُملةً نادرةً لِمَن حاز نسخةً من طبعته الوحيدة.. ياليت إحدى دور النشر الكبيرة تشترى حق الكتاب من ورثة صديق الدكتور جلال وتُعيدُ طباعته.
أما الكتاب نفسه فيبدأ بتناول عصر محمد على «حيث التنمية بلا ديون».. ثم عصر سعيد باشا «حيث الديون بلا تنمية».. ثم عصر إسماعيل «والاستدانة فى عصر الرخاء».. ثم عصر الاحتلال «حيث صار الاقتصاد المصرى فى خدمة الدائنين».. ويحلل بعد ذلك ديون عبدالناصر قبل وبعد النكسة، وديون السادات فى السنوات العجاف ثم فى سنوات الرخاء، ثم ديوننا الخارجية فى الثمانينيات.
كُنتُ قد أشرتُ إلى عيّنةٍ من عناوين كُتُبه.. لكن مقالات الرجل التى تتشرف بنشرِها أربع صُحُفٍ مصرية على الأقل، تصلُح كُتُباً فى حد ذاتها.. مازال جلال أمين يُذهلُنا بقدرته على أن يُبصر الأحداث ببصيرته التى يرى بها ما لا نراه ثُمّ يُعبّر عن رؤيته بسلاسةٍ، قَلّ أن تُوجَد فى قَلَمٍ آخر.. وقد رأيتُ أن أُشرككم معى فى الاستمتاع بفقراتٍ مِن مقالاته التى نشرها فى الشهر الأخير فقط.. أنقلها كما هى فى حدود المساحة المُتاحة وأدعوكم لقراءتها كاملةً على شبكة الإنترنت.
تحت عنوان «شرطان ضروريان للتقدم» كتب جلال أمين أنهما النية الصادقة، وحرية الإرادة، ثم فسّر وجهة نظره القائلة بأنهما غير متوافرتين.. ودَلّلَ على ذلك بغياب «النيّة الصادقة» لدى معظم مُتخذى القرارات فى تاريخنا الحديث رغم أنهم كانوا يُختارون عادة من بين صفوة مصر المتعلمة، وأصحاب التجارب الطويلة فى الحكم أو الإدارة، بل وأيضا من بين المشهود لهم بالوطنية والنزاهة.. وفسّر ذلك قائلاً: تفسير ذلك يندرج تحت أحد احتمالين.الاحتمال الأول أنه مهما اتصّف مَن بيده سلطةٌ ما، بالعلم والخبرة والوطنية والنزاهة، فإن كل هذا يضيع سُدى إذا كان فوقه مَن هو أكبر سلطةً منه ولا يتمتع بهذه الصفة «النية الصادقة».. لقد عرفتُ فى حياتى «وكثيرا ما كانت معرفةً عن قُرب» رجالا تولوا مسؤولياتٍ كبيرة، وكانوا يتحلّوْن بهذه الصفات الممتازة، وقد قَبلوا تَولّى هذه المسؤوليات بِسِعة صدرٍ أحياناً، أو بعد تردّدٍ أحياناً أخرى، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أنه «لا فائدة»، لهذا السبب بالضبط، وهو أن مَن هُم أعلى منهم فى السلطة ليست لديهم «النية الصادقة».. الاحتمال الآخر هو أن يؤدى المناخ السائد فى البلد إلى أن يتحول الرجل الذى تتوفر فيه هذه «النية الصادقة»، إلى شخصٍ مختلفٍ تماماً، فيتحول المشروع الوطنى لديه إلى مشروعٍ فردىٍ جدا، وتتحول الآمال الوطنية على يديه إلى أهدافٍ أنانيةٍ جداً ورخيصةٍ للغاية، قد لا تتعدى مثلاً الحصول على فيلا أو شاليه فى الصف الأول «وليس فى الصف الثانى» فى إحدى القرى التى تبنيها الدولة على شاطئٍ جميلٍ فى الساحل الشمالى، وتُوزّعُ مبانيها طِبقاً لدرجة القُرب من أصحاب النفوذ والسلطة.
وتحت عنوان «ماذا نكتب عن عبدالناصر» يكتُب «كان حُكمُ عبدالناصر شمولياً واستبدادياً ولكنه كان أيضاً حُكماً وطنياً.ضيّق الخِناق على من يختلف معه فى الرأى ولكنه رفع مستوى الأمل.. والثقافةُ تنهضُ بزيادة جُرعة الحرية كما ترتفع بزيادة جُرعة الأمل.. إننى أذكرُ قولاً ساخراً سَمِعتُه من كاتبٍ يسارىٍ مرموقٍ»، فى أثناء ممارسة عبدالناصر لتضييق الحريات ومقاومة الاستعمار والرجعية فى نفس الوقت: «ياليت عبدالناصر يسمح لنا بأن نموت من أجله!».. كان ارتفاع مستوى الآمال فى عهد عبدالناصر ليس فقط بسبب نجاحه فى تحرير الإرادة المصرية من سيطرة الأجنبى «الذى بدأ بتأميمه قناة السويس فى 1956»، ولكن أيضاً بسبب ما فتحه من أبواب الأمل أمام الطبقات التى كانت محرومةً من أى مساهمةٍ فى الحياة الاجتماعية والثقافية.. وَجَد المثقفون والمبدعون فى الأمرين قوّتين دافعتين للتعبير الصادق عن النفس، فأنتجوا أعمالاً أدبيةً وفنيةً باهرةً، على الرغم من تضييق الخناق على النشاط السياسى.
فى العهدين التاليين «عهدا السادات ومبارك» انخفض بشدة، وللأسف الشديد مستوى الأمل.. كما أن زيادة جرعة الحريات كانت سطحيةً جداً ومصطنعةً، بل وأقرب إلى التمثيلية.. لا عَجَبَ إذن أن خَبا نورُ الثقافة فى مصر فى عهديهما، بل كان قد بدأ يخبو فى أعقاب هزيمة 1967 أى حتى من قبل وفاة جمال عبدالناصر.
لماذا يجد الناصريون وأعداء الناصرية على السواء، من الصعب الاعتراف بهذا كله فى نفس الوقت؟ إنهم لا يريدون أن يروا الكوب إلا ملآن كله، أو فارغاً كله، بينما الحقيقة نادراً ما تكون كذلك».
وتحت عنوان «أسبابٌ غير حقيقيةٍ للقلق» يقول «كلما سمعتُ من يتكلم عن مشاكل مصر الكثيرة والمعقدة أقول لنفسى «ومتى كانت مشاكل مصر قليلةً وغير مُعقدة؟» إن هذا لم يمنع مِن مرورنا بفتراتٍ كثيرةٍ ساد فيها التفاؤل، وارتفعت فيها آمالنا إلى عنان السماء».
ويضيف فى موضعٍ آخر: أسخف ما يمكن أن نسمعه «ونسمعه أحياناً للأسف» هو القول بأن هناك أشياء فى الشخصية المصرية تَحُول دون النهضة.. لقد سمعتُ مثل هذا القول المُحبط عن كثيرٍ من الأمم الأخرى.. قاله الإنجليز عن أنفسهم عقب أحداث 1956، عندما أُصيب الإنجليز بالإحباط الشديد بعد تأميم قناة السويس وانتصار إرادة دولةٍ صغيرةٍ على دولةٍ كانت إمبراطوريةً لا تغربُ عنها الشمس.. وقاله اليابانيون عن أنفسهم قُبيل تحقيقهم نهضةً اقتصاديةً عظيمةً فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، ثم عقب هزيمتهم المدوّية فى الحرب العالمية الثانية.. إلخ.. والتفسير الحقيقى أن لشخصية كل أمةٍ إيجابياتها وسلبياتها، ثم تحدثُ أزمةٌ فيميل كثيرون من أفرادها إلى تفسير الفشل مما يعرفونه «أو يُضخمونه» من سلبيات أمتهم.. والمصريون ليسوا استثناء.. يطيرون فرحاً بأنفسهم عند النجاح، ويُشبعون أنفسَهم لوماً وتقريعاً عند الفشل.. مع أن كل خصلةٍ من الخصال الإيجابية هى الوجه الآخر لخصلةٍ سلبيةٍ، أو أن كلتيهما وجهٌ لعملةٍ واحدة.
وفى مقاله عن «أحمد فؤاد نجم» يقول «إنه صارخٌ فى تمثيل الشخصية المصرية، إلى حدٍ قد يعتبره البعض أبعد من اللازم «كما فى طول اللسان مثلاً»، ولكن رجلاً بمثل موهبته وحيويته يجب أن تُغتفر له مثل هذه الأشياء.. من المدهش ما يمكن أن تلاحظه من تناسقٍ تامٍ بين مكونات شخصية أحمد فؤاد نجم، وبين أسلوب حياته وسمات أدبه، كما أنى أجد «مثل كثيرين غيرى» فى اجتماع كل هذه الصفات جاذبيةً لا تُقاوَم.. ظل أحمد فؤاد نجم طوال حياته نحيف الجسم، رغم ولعه الشديد بالأكل الجيد.. لا تراه إلا مستقيم العود، رافع الرأس.. إنه ضحوكٌ، ولكن ضحكته ليست دائماً خالصةً تماماً، بل يشوبها بعض الشك، وكأنه يشعر بأن من الخطأ أن تثق ثقةً تامة بما سيأتى به المستقبل.. إن تعبيراته عن المستقبل دائماً متفائلة، سواء تعلّق به هو شخصياً أو ببلده، ولكنك تشعر بأنه يقول ذلك من باب التشجيع على الصبر وعدم الركون إلى اليأس.. فى كل هذه الصفات أجده مصرياً صميمًا.. فالفلاح المصرى نحيفٌ، لا يسمح ما يأكله وما يجب عليه القيام به من نشاط جسمانى، بأن يترهل جسمه، وهو يحتفل بظهور اللحم فى الطعام، ولكن هذا اللحم نادراً ما يظهر له.
العالِم المُفكّر الوطنى الكبير دكتور جلال أمين.. أنت مِن الأشياء الجميلة الجليلة فى حياتنا.. فشكراً لك.. وكل سنة وأنت طيب.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة