د. عمار على حسن

تشريح السلفيين «6-9»

الأربعاء، 10 سبتمبر 2014 11:21 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تناولت فى المقالات السابقة ست خصائص للتفكير السلفى وهنا أكمل:
سابعاً، إن نقد فقهاء وعلماء المسلمين للبنية المعرفية السلفية مستمر على مستوى الشكل والمضمون. ولم يقف هذا النقد عند حد تفنيد الآراء والتصورات العامة للسلفيين، بل امتد إلى المساءلة العقلية والمنهجية لمصدر أساسى من مصادرهم وهو «الحديث النبوى»، بوصفهم يطلقون على أنفسهم «أهل الحديث»، وبكونهم استعملوا هذا «النص» فى تبرير موقفهم من المعتزلة والأشاعرة معاً، حسبما ذكرنا سالفاً.

وبعض الناقدين يستعمل التحايل فى نقدهم هذا، مثل الشيخ يوسف القرضاوى، الذى إن كان ينطلق من أن الواجب على العالم المنصف أن يُبقى على الحديث الذى يشتمل متنه على ما يظهر أنه يتعارض مع نص القرآن، ويبحث عن معنى معقول أو تأويل مناسب له، فإنه يرى أن «السُّنة» فى حاجة إلى إعادة تصنيف وغربلة جديدة وفق معطيات العلم الحديث، عبر موسوعة شاملة للرواة، وأخرى للمتون، ويقول: «هاتان الموسوعتان تهيئان لموسوعة ثالثة هى الهدف المنشود من وراء هذا العمل الكبير، وهى موسوعة الصحاح والحسان، المنتقاة من الموسوعة الشاملة، وفقاً للمعايير العلمية الدقيقة التى وضع قواعدها الجهابذة من علماء الأمة السابقين، والتى ينبغى أن تقر من قبل أهل الذكر والاختصاص من علماء الأمة المعاصرين». وقد أخذ محمد عمارة خطوة قليلة إلى الأمام حين لم يجعل «السنة النبوية» كابحاً للعقل، ففى نظره أن «التماس الإنسان المسلم المعارف العديدة، من المصادر والميادين المتعددة، بواسطة السنة النبوية، إنما يفتح للعقل الإنسانى الجديد العديد من الآفاق، وذلك دون أن يحد من قدرات وإمكانات وآفاق هذا العقل أو يقيد من طموحاته».

وكان الشيخ محمد الغزالى أكثر صراحة حين رفع شعار «لا سنة بلا فقه»، ووصف ما عليه الذين يأخذون بظاهر الحديث أو يعتمدون سنده فقط فى التصديق به بأنه «طفولة إسلامية»، تتسم بالقصور والعناد، وترفع شعارات ولا تحسن خدمتها، وقال: «المخيف أنها طفولة عقلية تجمع فى غمارها أرباب لحى، وأصحاب هامات وقامات!! يقعون على أحاديث لا يفهمونها ثم يقدمون صورة للإسلام تثير الانقباض والخوف»، وتخرج عن تلك التى حددها وعيّنها ورسّخ وجودها القرآن الكريم، بل هى قد تراكمت عليه فأخفت الكثير منه، وصارت هى محور التداول والاستعمال اليومى للمسلمين، وهنا يقول الغزالى: «إن ركاماً من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، وركاماً مثله من الأحاديث التى صحت، وسطا التحريف على معناها، أو لابسها كل ذلك، جعلها تنبو عن دلالات القرآن القريبة والبعيدة».

وانطلق الغزالى من أن الاكتفاء بسند الحديث ينطوى على زلل وخلل، وأن منع العقل من التعامل معه خطيئة، إذ يقول: «إن التعاون فى ضبط التراث النبوى مطلوب، ومتن الحديث قد يتناول عقائد وعبادات ومعاملات، يشتغل بها علماء المعقول والمنقول جميعاً، وقد يتناول الحديث شؤون الدعوة والحرب والسلام، فلماذا يُحرم علماء هذه الآفاق المهمة من النظر فى المتون المروية؟ وما قيمة حديث صحيح السند عليل المتن؟».

ورغم أن الإمام محمد عبده يتفق مع السلفية فى ألا تكون كتب الفقه على علاتها هى أساس الدين، إنما الكتاب والسنة، فإنه يعتبر أن الأصل الأول للإسلام هو النظر العقلى لتحصيل الإيمان، ويقدم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، ويطلب مودة المخالفين فى العقيدة، والجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وينهى عن الغلو فى الدين، ويطالب ب«قلب السلطة الدينية» تماماً؛ لأن الإسلام هدم أى وصاية لأحد من الناس على إسلام أو إيمان غيره، ولم يجعل لأحد، بعد الله ورسوله، سلطاناً على عقيدة أحد، ولكل مسلم أن يفهم عن الله من كتابه، وعن الرسول من كلامه، من دون توسيط أحد من سلف أو خلف.

كما يختلف عبده عن السلفيين فى الانقياد للسلطة السياسية، الممثلة بولى الأمر، حيث يقول: إنه مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب والسنة. والمسلمون له بالمرصاد، فإذا انحرف عن المنهج أقاموه عليه، وإذا اعوج قوموه بالنصيحة والإعذار إليه. ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، فإذا فارق الكتاب والسنة فى عمله، وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره، ما لم يكن فى استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه، فالأمة، أو نائب الأمة، هو الذى ينصبه، والأمة هى صاحبة الحق فى السيطرة عليه، وهى التى تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدنى من جميع الوجوه.. والإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء، فهى سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامى، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعى حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه فى طريق نظره.

وهناك من يطرح رؤية أكثر صرامة، ورفضاً أعمق جذراً فى رفض «السلفية»؛ مثل الصادق النيهوم وسعيد العشماوى وجمال البنا ومحمد السعيد مشتهرى وعبدالجواد ياسين وغيرهم. وقد بلور جمال البنا رؤيته تلك، التى استفاد فيها من عطاء كل هؤلاء، فيما أسماها «دعوة الإحياء الإسلامى»، والتى تجعل الإنسان هو «المركز» أو «الغاية» والدين هو الوسيلة، والتى تساوى بين الناس جميعاً فى الحقوق والواجبات بصرف النظر عن دينهم أو إيمانهم، وتجعل العقل هو أساس النظر الدينى، وأن شيئاً لا يستعصى عليه سوى ذات الله وطبيعته والعالم الآخر. وهو إن كان يتفق مع السلفيين فى ضرورة العودة إلى القرآن الكريم، لكنه يختلف معهم فى اعتباره «كتاب هداية»، ويطلب ضبط السنة النبوية بضوابطه، بل يزيد على ذلك باعتبار الحكمة أصلاً من أصول الإسلام، وهى كل ما انتهت إليه البشرية من أحكام ومبادئ وأصول ثبتت صلاحيتها على مر الأجيال.

لكن خطاب ناقدى السلفية، على اختلاف درجاته، لا يزال نخبوى الطابع، فيما يسيطر «أهل الأثر» على العقل الشعبوى، سواء بلسان ذرب يسترجع ويستعيد ما ورد فى الكتب القديمة أو بقدرات وأدوات مادية كبيرة، وقبل كل هذا بلافتة عريضة تدّعى أن ما هم عليه هو «الصراط المستقيم»، وأن ناقديهم ومخالفيهم مبتدعون أو مرجفون.

ثامناً: لم تنج السلفية من ظاهرة الانشقاقات التى وصمت الحركات الإسلامية على مدار التاريخ، دعوية كانت أو سياسية وجهادية. فالسلفية ابتداءً ليست جماعة أو حركة أو تنظيماً واحداً، إنما هى تيار عريض تتباين وحداته فى الرؤى والمواقف، تجعلنا أمام «سلفيات» فى حقيقة الأمر، حتى لو تحدثنا على سبيل المجاز عن «سلفيين»، فتخيل البعض أنهم صنف واحد من الاتجاه والفهم وربما الأشكال والرموز، ومنها الزى وإعفاء اللحية وقص الشارب والانتماء إلى شيخ وفق قاعدة «من لا شيخ له فالشيطان شيخه».

وفى الغالب الأعم تكون الوقائع والأوضاع السياسية هى التى تقف وراء مثل هذه الانشقاقات. فعلى سبيل المثال، انشقت مجموعة عن أنصار السنة المحمدية فى السودان عام 1990، وأطلقت على نفسها «جماعة اللا جماعة»، ودعت الشبان إلى الخروج من الجمعيات السلفية والتجمعات الجهادية والجماعات الإسلامية، ورفض ممارسة السياسة، رافعة شعار «من السياسة تَرْكُ السياسة». وبعد سنتين فقط جاء الانشقاق الثانى، حيت نشأت من رحم أنصار السنة أيضاً جمعية «الكتاب والسنة الخيرية»، وحددت أهدافها فى محاربة الشرك والخرافة ومظاهر الشعوذة والدجل، ونشر العقيدة الصحيحة. وفى عام 2007 انشقت مجموعة ثالثة أطلقت على نفسها «أنصار السنة- الإصلاح» جراء الخلاف الذى نشب بين رئيس الجماعة ونائبه حول المشاركة فى الحكومة السودانية.

وهناك حالة فى السلفية العراقية الجهادية، حيث انشق سعدون القاضى عام 2007 عن جيش أنصار السنة الذى أُعلن عن قيامه فى 20 سبتمبر 2003 للجهاد ضد الاحتلال الأمريكى، وضم عدداً من الفصائل والجماعات الجهادية المتفرقة. وبعد انشقاقه كوّن القاضى ما يعرف بحركة «جيش أنصار السنة- الهيئة الشرعية». وقبلها شهدت التجربة السلفية السعودية على قِدم وجودها وتأثيرها فى العالم الإسلام برمته، حالات انشقاق أو تصدع إبان حرب الخليج عام 1991، حين اختلف مشايخها حول مدى إجازة الشرع للاستعانة بقوات أجنبية لتحرير دولة الكويت من الاحتلال العراقى، ولا تزال آثار هذا الخلاف باقية إلى وقتنا الراهن.

وتقدم الحالة المصرية عقب ثورة يناير 2011 مثالاً ثالثاً على تشظى السلفية على خلفية سياسية، حيث ولدت سلفيات عدة، منها: الجبهة السلفية المعروفة إعلامياً باسم «سلفيى كوستا»، وحركة حازمون، وحزب الإصلاح والنهضة، وحركة طلاب الشريعة، وتيار الإسلام الجديد، وائتلاف دعم المسلمين الجدد، وائتلاف شباب مصر الإسلامى، وحركة أحفاد صلاح الدين السلفية. فيما شهد حزب النور، الذراع السياسية للدعوة السلفية بالإسكندرية، انشقاقاً، حيث خرج عليه بعض قادته وشكّلوا حزباً جديداً هو «حزب الوطن»، ليصبح فى الساحة السياسية أحزاب سلفية عدة؛ فإلى جانب «النور» و«الوطن»، هناك «الأصالة» و«الفضيلة» و«الراية»، و«الشعب» تحت التأسيس، التابع للجبهة السلفية.

تاسعاً: ليست السلفية عصية على التطور، حتى لو جاء بطيئاً، فأحياناً يضغط الواقع عليها، فتضطر أن تتلمس «المصلحة» ولا تتقيد بشكل صارم بتوافر «الدليل الشرعى»، وأحياناً تجد أن ما هى عليه غير قابل للاستجابة لكل التحديات التى تطرحها تصاريف المعيشة. وتزيد هذه الحالة مع انخراط السلفيين فى الحياة السياسية ببعض البلدان، وسعيهم إلى تكوين أحزاب والمنافسة على السلطة السياسية. وهنا قد يتحول الدين تدريجياً إلى أيديولوجيا، أو يتم توظيفه فى الدعاية السياسية البحتة، أو يمكن أن يكون فى وضع أفضل حين يشكل إطاراً أخلاقياً للممارسة السياسية، فنكون أمام «تديين السياسة» لا «تسييس الدين». وفى الحالتين تتحطم الكثير من المقولات السلفية الجامدة.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة