يُرجع السلفيون نشأتهم إلى أيام النبى «صلى الله عليه وسلم»، وهم لا يختلفون فى هذا عن أغلب الفرق والجماعات الإسلامية والطرق الصوفية، إذ تزعم كل منها أنها تمثل طريق الصواب، وتموضع وجودها عند سنوات الوحى
وبذلك تبنى مشـروعية صلبة، تواجه بها من يخالفها فى الرأى والاتجاه، وتجذب بها الأنصار والأتباع بوصفها «طريق النجاة» أو بوصفها «الوريث الشـرعى للسلف الصالح، على نهجه تسير، وبمذهبه تأخذ، وبأصوله تقتدى وتلتزم».
وفى عهد النبوة كان مجمل الاعتقاد والبنى المعرفية والمنظومة القيمية والطقوس والتدابير يحمل اسماً واحداً موحداً وهو «الإسلام»، لكن مع تعاقب السنين، وظهور الخلافات، سواء بفعل تغير المعاش وتبدل السياقات واختلاف الملَكات العقلية أو نتيجة لتضارب المصالح وتباعد الأهواء وتأجج الصـراع على السلطة، انقسم المسلمون إلى فرق عديدة، تتجاذبها منافع وأفكار شتى، لكنها من ناحية الإسناد توزعت على مسارين: الأول يجعل من العقل مكملاً لرسالة الوحى، والثانى يجفل منه ويرى أنه فتح باباً لدخول الشاذ والغريب من ميراث الأمم الأخرى، لاسيما الإغريق والفرس، على المعرفة الإسلامية، ولذا وجب التخلص من كل ما جاد به هذا العقل، والعودة إلى «المنبع الصافى» أو «ما كان عليه السلف الصالح».
وبالتالى يبقى مصطلح السلفية فى نظر هذا الفريق هو: اتباع منهج السلف عقيدة وقولاً وعملاً وائتلافاً واتفاقاً وتراحماً وتواداً، والسلف عندهم هم الصحابة والتابعون والقرون المفضلة فى العقيدة والفهم والسلوك، كما يقول الشيخ صالح آل الفوزان، ويضيف الشيخ محمد السفارينى إلى هؤلاء أئمة الدين ممن شُهد لهم بالإمامة وعُرف عظم شأنهم فى الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفاً عن سلف، دون من رُمى ببدعة أو اشتهر بلقب غير مُرض. ويتفق معه الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق، الذى يعد بمنزلة الأب الروحى للسلفية المصـرية، حين يُدخل فى تعريف مصطلح السلفية «احترام العلماء الذين قاموا بفهم هذا الدين وتبليغه، واقتفاء آثارهم فى ذلك». وقد أخذ هذه الاتجاه دفعة قوية حين انتصر فى المعركة الفكرية والفقهية التى دارت فى القرن الثالث الهجرى بين «المعتزلة» الداعين إلى استعمال العقل بلا حدود فى ركاب «علم الكلام» و«الفلسفة»، والأشاعرة الذين سعوا إلى الدفاع عن «النقل» عبر حجج وبراهين عقلية، وبين «أهل الحديث» أو «أهل الأثر» الذين رفضوا مسلك المعتزلة والأشاعرة معاً، ورأوا أن الأفضل والأصح هو العودة إلى التنزيل «القرآن» وأقوال الرسول «الأحاديث»
وأطلقوا على أنفسهم «أهل السُّنة والجماعة»، وبذلوا جهداً مفرطاً فى سبيل نصـرة «الرواية»، مهما بلغ ضعفها أو وُصمت بالكذب أو كان نسبها مبتوراً، على «الدراية» التى اتُهم المنحازون إليها بأنهم انتقلوا فى الدين من «التنزيل» إلى «التبديل» ولم يكتفوا حتى بـ«التأويل». وظهرت فى القرنين الثالث والرابع الهجريَّين مصنفات عديدة للحديث النبوى منها: المصنف أو الجامع الكبير لعبدالرازق بن همام الصنعانى «ت 211 هــ»،
ومسند أبى بكر عبد الله بن الزبير الحميدى «ت 219 هـ»، والسنن لسعيد بن منصور المروزى «ت 227 هـ»، ومصنف أبى بكر بن أبى شيبة العبسـى «ت 235 هــ»، ومسند الإمام أحمد بن حنبل «ت 241 هــ»، ومسند أبى محمد بن نصـر الكشـى «ت 249 هـ»، والجامع الصحيح لأبى عبدالله بن إسماعيل البخارى «ت 256 هــ»، وصحيح مسلم لأبى الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى «ت 261 هــ»، ومسند أبى عبدالرحمن بن مخلد الأندلسـى «ت 276 هــ»، ومسند أبى سعيد الدرامى «ت 280 هــ»، والمسند الكبير
والمسند الصغير لأبى بكر البزار «ت 299 هـ». وفى ركاب هذا ظهر «علم الحديث» الذى عُنى بالنظر فى الناسخ والمنسوخ منه، وكذلك فى الأسانيد عبر معرفة رواته وتعديلهم وتبرئتهم من الجرح والغفلة، من ثم ترك ما رَوُوه أو قبوله، ثم مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين، ومدى اتصالهم أو انقطاعهم، وبعدها ترتيب الحديث مثل: الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمعضل والشاذ والغريب والمعلول والمقطوع والمرفوع، أو تصنيفه وفق الحجية إلى: موضوع ثبت كذبه وافتراؤه، وغير موضوع.
وقد اختلف الفقهاء والمحدّثون ومؤرخو السيرة النبوية فى صحة كثير من الأحاديث التى خضعت لآليات التواتر الشفاهى، واقتربت من مجال «النصوص التفسيرية»، أو الخطاب المتداول المنسوب كـ«نص» للرسول الكريم، ولهذا كان أبوحنيفة النعمان «ت 150 هـ» لا يعترف سوى بأربعة عشر حديثاً على أبعد حد، لكنّ غيره أفرط فى استعمالها، لاسيما بشأن معالجة قضايا لم يرد بشأنها نص صـريح فى القرآن الكريم، إلى درجة صوغ الشـريعة
الإسلامية على هوى القائلين بهذه الأحاديث، وهو ما نراه جلياً فى قضيتى «قتل المرتد» و«رجم الزانية». وربما يعود هذا إلى أن هؤلاء وجدوا هذه الطريقة «مطواعة» فى إعطاء شـرعية دينية لما ينطقون به من أقوال، وما يقدمون عليه من أفعال. فما تبدأ كلامك بعبارة «قال رسول الله» حتى يصغى إليك سامعك، ويذهب معك فى الطريق الذى تريده، وإن لم يكن لديه العلم الكافى لتبيان مدى صحة نسبة ما ترويه عن النبى، ومدى توافقه أو تعارضه مع القرآن الكريم، وهذا بالطبع حال الأغلبية الكاسحة من المسلمين.
وقد شكّل هذا المنتَج، أو هذا النص الشفاهى المنسوب للرسول والمدون فى القرن الثالث الهجرى، جزءاً أصيلاً من الصـراع بين مختلف الفرق الإسلامية، والذى بدأ محتدماً فى نهاية عهد الخلفاء الراشدين، واستمر طيلة حكم بنى أمية وحتى وقت متأخر من حكم بنى العباس، وانطلق من أخذ ورد حول «العقيدة» ليختلط، إلى حد الامتزاح أحياناً، بالقضايا السياسية، والمواقف الفكرية، والتدابير الاجتماعية، التى انتشـرت وسادت فى المجتمع الإسلامى طيلة هذه القرون، وقد حوت كتب تراثية عدة نتاج هذا الخلاف المحتدم، مثل مقالات الإسلاميين للأشعرى «ت 330 هــ»، والتنبيه والرد للملطى «ت 377 هـ»، والفَرْق بين الفِرَق للبغدادى «ت 429 هـــ»
والفصل فى الملل والأهواء والنِّحل لابن حزم «ت 456 هــ»، والتبصير فى الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين للإسفرايينى «ت 471 هــ»، والملل والنِّحل للشهرستانى «ت 548 هــ»، والغنية لطالبى طريق الحق لعبدالقادر الجيلانى «ت 561 هــ»، واعتقادات فرق المسلمين والمشـركين للرازى «ت 606 هـ» ، والمواقف للإيجى «ت 756 هـ».
«ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى»
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة