تتردد عبارة إصلاح الخطاب الدينى بشكل كبير فى جميع وسائل الإعلام، وعلى لسان الساسة والمفكرين ممن يرون أن أحد أسباب الأزمة التى تعيشها أمتنا، هو الخطاب الدينى القاصر أو المتشنج أو الماضوى الذى لا يشتبك مع أوضاع حياتنا، ولا يسعفنا بالحلول المناسبة لمشكلاتنا ولا يصنع حالة الوعى المنشودة لتقدم مجتمعاتنا، وأظن أن الأزمة ليست فى الخطاب بقدر ما هى فى تصورنا عن الدين، بمعنى أننا بحاجة إلى إصلاح دينى ينتج بدوره تطور وإصلاح الخطاب المعبر عنه، وحتى لا نقع فى فخ التعقيد العلمى والتنظير أتصور أننا يجب أن نفرق بداية بين الدين، الذى هو كمال مطلق من عند الله ما دام محكوما بنصوص صحيحة، سواء كان بعضها قطعى الثبوت قطعى الدلالة، أو قطعى الثبوت ظنى الدلالة وخضعت دلالاته لقراءات علماء راسخين فى العلم متصلين بالعصر قادرين على الاجتهاد.
عاشت أمتنا قرونا طويلة وقد أغلقت باب الاجتهاد، وظللنا نجتر ما اجتهده أسلافنا ونشأ بيننا فريق يتصور أن النجاة فى الإمساك بتراثهم واجتهادهم، خاصة القرون الأولى التى حثنا الحديث النبوى على اقتفاء أثرهم «خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم» فى إشارة إلى القرون الثلاثة الأولى، التى يطلق عليها السلفيون القرون المباركة ولا ضير فى وصفها بذلك، والتأكيد على أفضليتها فى ميزان الله، رغم أننا لم نعرف عنهم إلا ما وصل إلينا من أخبارهم ولم نعايشهم معايشة تمكننا من الحكم الصحيح عليهم، فليس الخبر كالمعاينة على أية حال، ولكن ما يعنينا هو الأخذ عنهم وعن سيرهم واجتهاداتهم لعصورهم على نحو ملزم، لا يستقيم معه إيماننا دون ذلك وهذا هو محك الخلاف، التحرير الصحيح للمرجعية لدى المسلم من أين يأخذ دينه؟ من هذه الجماعات السلفية التى سجنت عقلها خلف أسوار القرون الثلاثة الأولى، اعتقادا وتصورا وسلوكا والتزاما بفقه الماضى وهو تنزيل النص على واقع متجدد متغير ديناميكى غير ساكن؟ لا أتصور أن هذا يتفق مع عقل حر حثه الله تبارك وتعالى على ارتياد الآفاق والتأمل المستمر والتفكر الذى عده بعض العلماء العبادة المهجورة، ماذا نصنع بهذا العقل إذا كنا سنصادره لحساب عقل أنتج ما أنتجه من اجتهادات، ثم مضى إلى رحمة الله مخطئا كان أم مصيبا؟ أتصور أن أولى خطوات الإصلاح الدينى هى البحث فى التراث، وغربلته بمناهج البحث العلمى التى تقدمت أبعد كثيرا مما كانت عليه فى القرون الأولى، التى أبدعت علم الرجال الذى يبحث فى عدالة من يروى الحديث فيما سمى بعلم الجرح والتعديل، الذى كان فتحا بمقاييس تلك القرون لكنه ليس كذلك الآن، فالحديث الذى اهتم علماؤنا الأوائل بتدقيق سيرة من يرويه والتأكد من ورعه وصدقه فيما رواه، والذى انصرف للبحث فى السند المتصل بالحديث دون البحث فى متنه ومعقولية النص مقارنة بنصوص القرآن أو مقاصد الدين مثلا، الأمر الثانى ربما هو هذا التحالف المبكر بين الوعاظ والسلاطين الذى دفع البعض منهم لوضع أحاديث تقنن الفساد أو الاستبداد، وتجعل الصبر على الحاكم الفاسد دون الاستدراك عليه ونصحه شكلا من أشكال الورع ودفع الفتن، ورواج فقه الانبطاح الذى يتأسس على مقولة راجت أنه من قويت شوكته وجبت طاعته، وهو فقه مفهوم فى أحوال الغابات وليس دنيا الناس التى عرفت الرسالات السماوية وعرفت أرقى أشكال العدل الإنسانى التى جسدها فى تاريخنا رموز كأبى بكر وعمر.
من الأزمات الكبرى التى تعترض الإصلاح الدينى لدينا أيضا تقديس الأشخاص الذى لم يقف عن الخلفاء الراشدين، بل امتد لكل زعيم دينى ادعى أنه الامتداد الطبيعى لأئمة الإسلام، وأصبح لقب شيخ الإسلام درعا حديدا لا يتيح لأحد أن ينفذ لصاحبه بسهام النقد، ولعل المثال الأوضح لذلك هو ابن تيمية الذى سمى بشيخ الإسلام، رغم أن له فتاوى مثيرة أصبحت دستور عمل لجماعات التكفير والدم، ولا يختلف على ابن تيمية أحد من أعضاء الجماعات الحركية على اختلاف مسمياتها، سواء من الإخوان أو السلفيين أو التكفيريين، بالرغم من أن استشهاداتهم فى الغالب فيما يتعلق بالفقه المنسوب له انتقائية تستبعد الاعتدال فى الغالب لحساب التطرف الذى يناسب أمزجتهم المعتلة، لا يوجد شخص فوق النقد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى كفل الله له العصمة وصوب هناته بالوحى صلى الله عليه وسلم، فيما عدا ذلك فالكل متاحة أقواله وأفعاله لميزان النقد العلمى، المستكمل لأدواته وشرائطه وعلى يد علماء يتوفر لهم العلم والخلق والتجرد المكافئ لتلك المهمة العظيمة، وهى مهمة غربلة التراث لتحديد دائرة الإلزام التى ظلت تتسع حتى غطت لدى مجموعات التطرف كل مناحى حياة الإنسان، بأوامر ونواه حولت حياته لجحيم فى انتظار النعيم الذى لا يمر إلا عبر الالتزام بهذه القيود، التى لم ينزل بها وحى ولم يأمر بها النبى صلى الله عليه وسلم، بل كانت نتاجا لخيال صاحبها الذى نشأت له سلطة عبرت الزمن فى غفلة من الجميع.
قدمت الكيانات الحركية أنماطا من التدين تتفق أو تختلف مع صحيح الدين، الذى تحول كما كان يصف الشيخ يوسف القرضاوى إلى بيت أحاطوه بسور تلو آخر، حتى لم يعد يرى أحد البيت وكلما وصل إلى أحد الأسوار ظنها هى البيت، الذى بقى بعيدا محجوبا عن ناظريه لا يستطيع لمس حوائطه أو النفاذ إلى غرفاته، هكذا الدين والتدين، الدين هو البيت والتدين هو تلك الأسوار التى تتفاوت فى قربها وبعدها من الدين، لكنها تبقى أسوارا وليست هى أصل البيت، الكارثة هى فى إصرار البعض ممن أقاموا تلك الأسوار أنها هى أصل البيت أو أصل الدين.
ما زلنا بحاجة إلى مرجعية عابرة للتوظيف السياسى أو الفئوى لجماعة أو حزب، تتولى هذا العبأ الضخم عبأ تحرير حقيقة الدين وصياغة المرجعية التى تحظى باحترام الناس دون سلطان كهنوتى، فالدين فى النهاية هو اختيار عقلى حر «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» أتصور أن الأزهر الذى تنتخب قيادته من بين هيئة كبار العلماء، تلك الهيئة التى يجب أن تضم كبار العلماء فى العالم الإسلامى وبما لا يمنع أن يكون شيخ الأزهر تونسيا أو عراقيا، كما كان فى السابق، هو الأقدر على هذا المهمة العظيمة، لتعود تلك المرجعية القادرة على أن تشرع فى الإصلاح الدينى، الذى عطله سد باب الاجتهاد لغياب المرجعية قرونا متعددة، أنا لا أتصور حلا لمشكلة الإرهاب وسبيلا للتقدم سوى بإنجاز هذا الأمر، فشعوبنا مؤمنة تتحسس مراد الشارع الذى يتخفى على وعيها بلصوص الدين، الذين ما ملأوا الساحات إلا لغياب العلماء الأفذاذ والأزهر المستقل القوى القادر على إبرازهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة