بعد أن هرب أساطين الخصخصة فى أعقاب ثورة يناير واختبأ الباقون متبرئين من مجرد ذكر الكلمة، بل تحوّل بعضهم إلى مهاجمٍ لها.. وبعد حوالى ثلاث سنواتٍ عانى فيها قطاع الأعمال العام من إهمالٍ متعمدٍ من وزراء ومسئولى أمانة السياسات التى ظلّت فى الحقيقة قابضةً على القرار الاقتصادى فى كل حكومات ما بعد 25 يناير (ومازالت).. وبعد أن أوضح عبدالفتاح السيسى أن خطته للنهوض بالبلد وضبط توحش الأسعار سيعتمد فيها على أدوات الدولة (وفى القلب منها شركات القطاع العام) بمنطقٍ بسيطٍ ومباشرٍ يردده رجل الشارع، وهو أننا نبذل قصارى ما نستطيع لجذب مستثمرين لبناء مصانع وشركاتٍ جديدةٍ وهو ما سيستغرق سنواتٍ حتى يؤتى ثماره، فبأى منطقٍ نُفرّط فى حوالى 160 شركةٍ قطاع أعمال عام قائمة فعلاً وتعمل وتحتاج إلى دعمٍ محدودٍ من الدولة لتحقق نتائج إيجابيةً سريعةً نحن فى احتياجٍ لها.. وهى نفس الشركات التى تستطيع الدولة أن تُخفض هامش ربحها لمواجهة توحش تحالفات المحتكرين.. لم يُرضِ هذا التوجه أمانة السياسات (التى لم ترحل) وحوارييها ونسلها الذى زرعته فى أركان الدولة.. فإذا بهجمةٍ مضادةٍ ومكثفةٍ ومفاجئةٍ وبلا مقدماتٍ ضد معارضى الخصخصة (بالتوازى مع حملةٍ أخرى ضد تطبيق الحد الأقصى على دخول رجال أمانة السياسات فى البنوك وقطاعاتٍ أخرى) وقد بلغت الهجمة ذروتها هذا الأسبوع بسلسلة مقالاتٍ فى المصرى اليوم يسخر فيها كاتبها (أ. سليمان جودة) من البعض الذى اعتبر بيع شركة عمر أفندى لمستثمرٍ عربى مسألة حياةٍ أو موت.. ويُخمّن الكاتب أن المستثمر يشعر الآن براحةٍ بعد أن انزاح كابوسٌ من فوق صدره اسمه عمر أفندى.. ثم يطالبنا بأن نقفز على ما مضى (دون أن يُحدد ماهية هذا الذى مضى) ونسأل عن حال الشركة الآن بعد عودتها.. ويقول إنه لا يشغله كيف بيعت الشركة ولا كيف عادت، ولكن يشغله كيف حالها الآن.. ثم يطلب الفتوى بخصوص شركة عمر أفندى من السيد منير فخرى عبدالنور (!!!).. وقد أفتاه السيد عبدالنور فى اليوم التالى بأن حال الشركة حالياً لا يسُر ويُبدى تعاطفه مع (المستثمر) الذى حاول أن يُصلحها ويرفع عبئها عن الدولة.. ثم انضم إليه السيد وزير الاستثمار الحالى الذى أضاف كلاماً لو صحّ أنه قاله لوجبت مساءلته وسأعود إليه بالتفصيل فى نهاية المقال.. وقد أرسلتُ تعقيباً للصديق على السيد رئيس تحرير المصرى اليوم ولم يُنشر حتى كتابة هذا المقال (وإن كنتُ مازلتُ وسأظل أُحسن الظن به).
ولكن الأمر من وجهة نظرى أكبر من مقالٍ للأستاذ سليمان جودة، فقد سبقه آخرون وأُخريات من المرتبطين عاطفياً ووجدانياً بأمانة السياسات.. وهى حملةٌ ممنهجةٌ ضد فكرة إعادة الروح للقطاع العام، يتم فيها ترديد أشياء مجافية للحقيقة وأخشى أن يؤدى تكرارها بلا ردّ إلى أن يتحول الجناة إلى مجنى عليهم والعكس.. لذلك فقد يكون من المناسب توضيح بعض الأمور بدلاً من استفتاء السيد/ منير فخرى عبدالنور الذى لا أدرى ما علاقته بالإفتاء فى موضوع عمر أفندى ولا غيره من شركات قطاع الأعمال (مع كامل محبتى المعروفة لسيادته على المستوى الإنسانى والسياسى):
1 – أتعجبُ بدايةً من تذكيرنا بموضوع عمر أفندى بالذات، وهو العلامة الأشهر على فساد برنامج الخصخصة، وسوءة أمانة سياسات حزب مبارك التى بُذلت محاولاتٌ محمومةٌ لسترها ونسيانها والتستر على مجرميها.. كما تعجبتُ بشدةٍ من سطحية التناول الذى يقفز على الحقائق، ويريدنا أن نقرأ القصة من فصلها الأخير متجاوزين ما سبقها من فصول.. كمن يلوم مواطناً لسيره ببدلةٍ ممزقةٍ ويقول له لا يعنينى ما الذى حدث لك وإنما يشغلنى تجرؤك على السير بتلك الحالة المُزرية فى هذا المكان العام.
2 – إننى وغيرى لم نكن ضد بيع عمر أفندى بقدر ما كنّا ضد الفساد فى بيع عمر أفندى.. ولم يكن بيع شركة عمر أفندى بالنسبة لنا مسألة حياةٍ أو موت كما قيل.. وإنما كانت الحياة لنا هى الوقوف فى وجه من يُفرّط فى المال العام (مالنا نحن وليس مال آبائهم) بأسعارٍ فاجرة.. وكان الموتُ بالنسبة لنا أن نصمتَ على هذا النهب المُنظّم خشية أن تطالنا سهام المجرمين (وقد طالتنا ولا تزال).. كنا ندافع عن شفافيةٍ تم سفكها بأشكالٍ متعددةٍ على مذبح هذه الصفقة.. وكنا ندافع عن الآلاف من إخوتنا من العاملين المصريين المهرة والأسر التى يعولونها (وتم تشريد نصفهم تقريباً دون ذنبٍ جنوه).
3 – إن (ما مضى) الذى يطالبوننا بالقفز عليه إلى الحاضر لم يكن شيئاً عابراً وإنما هو جريمةٌ متكاملة الأركان ومثبتةٌ بأحكامٍ قضائيةٍ باتّة أدانت عصراً بأكمله.. وهذه الجريمة لم يُحاسَب عليها ولا على غيرها أحدٌ حتى الآن ممن صاغوا وأبرموا هذه العقود.. بل ضغطت بقايا أمانة السياسات حتى صدر قانون تحصين العقود ليغلق أى احتمالٍ للمحاسبة عما مضى أو ما هو آت (!).
4 – ثم إن (ما مضى) هو أن مواطناً شَهدَ بنفسه وقائع التقييم المالى لهذه الشركة بدءاً من التوجيهات الرسمية بتخفيض القيمة ليصبح التقييم الرسمى حوالى 1300 مليون جنيه فقط (بينما القيمة الحقيقية أكثر من ثلاثة مليارات).. ثم تخفيض التقييم الرسمى ليكون 450 مليون جنيه فقط ليتوافق مع عرض (المستثمر) الذى طلب شراء الشركة بخمسمائة مليون جنيه فقط.. لم يحمل هذا المواطن شومةً ولا قنبلةً ليدافع عن ماله ومال شعبه الذى يُهدَر بلا حسابٍ.. لم يفعل هذا المواطن شيئاً إلا أنه ذهب بشهادته إلى النائب العام.. أم كان المطلوب أن يكتم شهادته؟!.
5 – كانت هذه هى أول (وآخر) صفقةٍ فى تاريخ الخصخصة يتم التحذير من فسادها قبل أن تتم.. وكان يمكن للسادة المجرمين بعد ما افتضح الأمر أن يعيدوا الطَرح ليتقدم آخرون مع هذا المشترى إبراءً لذمة أمانة السياسات (ولو تمثيلاً) لا سيما أنه لم يكن هناك ثمة تعاقد أو التزام قد تم تجاه هذا (المستثمر) المجهول.. لكنهم أصروا على البيع لهذا المشترى بالذات.. إذن فهذا المشترى هو اختيارهم الشخصى.. فهل حُوسِب أىٌ من هؤلاء عن التوابع الكارثية لاختيارهم؟.
6 – مازلت أعتبر أن أطراف صفقات الخصخصة لا ينطبق عليهم لفظ (مستثمر) وإنما هم (مشترون).. ثم إننى أسأل: هل ما تم فى بعض الصفقات من بيع مصانع بأقل من عُشر سعر الأرض يمكن تسميته عقداً بين دولةٍ محترمةٍ ومستثمرٍ جاد، أم أنه اتفاقٌ بين لصٍ وتاجر مسروقات؟!!.
7 – أما حكاية أن مشترى عمر أفندى كان يشعر أنه فى كابوس فهذه نُكتةٌ بلا شك، فالرجل كان يعيش فى حلمٍ جميل.. ولِم لا؟ وقد اشترى شركةً رابحةً بأقل من نصف سعرها الرسمى وبأقل من خُمس سعرها الحقيقى، وبعد عامٍ واحدٍ قام برهن أقل من خُمس الفروع لدى البنوك بما يساوى ما دفعه لشراء الشركة بالكامل.. ما أجمله من حلم.. ثم ألم يلفت انتباه أحدٍ إصرار هذا المُشترى على الاستمرار فى الصفقة رغم كل ما ثار حولها من لغطٍ على مدى حوالى عامٍ قبل البيع؟ هل فعل ذلك كنوعٍ من التضحية حُباً فى مصر؟.
8 – تم إخفاء العقد عن الرأى العام عاماً كاملاً بعد توقيعه.. وبعد أن تم تسريب بنوده بواسطة الصحافة الحرة، اكتشف الشعب أن بنود العقد تُناقض ما صرّح به أمين السياسات ووزير الاستثمار.. ولم يتم محاسبة هؤلاء الكَذَبة على كذبهم.. هل لا يوجد فى قانون العقوبات ما يُحاسب المسؤولين إذا كذبوا؟.
9 – بعد الثورة وبينما كان البعض يردد أن من حق الثورات استرداد ما أبرمته النظم الفاسدة عنوة، فإن العاملين المتحضرين فى شركة عمر أفندى الذين تخلص المشترى مما يقترب من نصفهم بالمخالفة لبنود العقد، لم يفعلوا شيئاً إلا استخدام حقهم فى اللجوء للقضاء.. وأمام القضاء الجليل أفرجت الأجهزة الرقابية عن تقاريرها وتكشفّت فضائح تفوق ما تضمّنه بلاغى.. فحَكَم القضاء الجليل ببطلان العقد لأنه باطلٌ فعلاً.. فهل كان يمكن للقضاء أن يحكم بغير الحق؟.
10 – ووجد القضاء الإدارى بمجلس الدولة أن الصفقة بها شبهات جنائية لا تدخل فى اختصاصه، فتقدم بحيثيات حكمه كبلاغٍ قضائىٍ إلى السيد النائب العام الأسبق ليحقق فى الشق الجنائى منذ أكثر من ثلاث سنوات.. فماذا تم؟.
11 – بيعت عمر أفندى سنة 2006 وكانت شركةً رابحةً رغم قلة أرباحها ولم تكن فى يومٍ من الأيام عبئاً على الدولة، وعادت فى 2011 بحكمين للقضاء الإدارى والمحكمة الإدارية العليا، مُحملةً بديونٍ والتزاماتٍ تقترب من المليار جنيه تسبب فيها المشترى (الطيب) ومن أصروا على بيعها له بالذات، فهل حوسب أحدٌ ممن ارتكبوا هذه الجريمة؟ لم يُحاسَب أحدٌ إلا كاتب هذه السطور.. هل تعرفون لماذا؟ لأن أمانة السياسات التى باعت عمر أفندى وغيره لم تغادرنا حتى الآن ومازالت تسيطر على مراكز القرار الاقتصادى فى مصر بعد ثورتين تاريخيتين.. نفس السياسات وأحيانا نفس الأشخاص.. إن قطاع الأعمال العام منذ أن سحبه الدكتور محمود محيى الدين ليبيعه، تعاقب عليه 13 وزيراً ومفوضاً.. منهم الطيب والشرس والقبيح.. بعضهم أصدقاء أعتز بصداقتهم.. لكنهم كلهم باستثناء الدكتور على السلمى والمهندس عادل الموزى يُكنّون عداءً مقيتاً وكراهيةً شديدةً للقطاع العام.
12 – أما ما نُسِب للسيد وزير الاستثمار الحالى من أنه قال (إن المستثمر إذا لجأ للتحكيم الدولى فسوف يكسب قضيته وسوف يكون علينا أن نعوَضه.. لأنه لا توجد دولةٌ فى العالم تبيع شيئاً.. أى شىء.. ثم تعود عنه فى اليوم التالى).. وهو كلامٌ بالغ الخطورة من وزيرٍ مسؤولٍ عن هذه الشركة، فضلاً على أنه كله مُجافٍ للحقيقة.. وأسأله لماذا لا تبادر بالمطالبة بحقوق الدولة لدى هذا المشترى ومن بينها هذه الرهونات المليارية وحقوق العمال التى أخلّ فيها ببنود العقد؟ هل أنت فى موقعك مؤتمنٌ على حقوق الشركة التى انتُهكت أم أنت ممثلٌ للمشترى؟ ثم ما الذى منع المشترى من للجوء للتحكيم الدولى؟ ولماذا لم تلجأ أنت للمطالبة بحقوقنا فهذا دورك بدلاً من المسارعة برفع الراية البيضاء قبل التحكيم وتُعلن أنه إذا لجأ المشترى للتحكيم فسيكسب؟ يا سيدى الدولة لم تنزع عمر أفندى من المشترى أصلاً.. الذى استردها هو القضاء فهل يجوز رفع دعوى تحكيم دولى ضد القضاء المصرى؟ طبعاً لا يجوز.. فضلاً على أن من الحسنات القليلة فى العقد أنه لا ينص على اللجوء للتحكيم الدولى عند التنازع بين طرفى العقد وإنما للتحكيم المحلى وفقاً للقانون المصرى (فضلاً على أن طرفى العقد لم يتنازعا أصلاً)
13 – هل تعرفون من هو رئيس شركة عمر أفندى الحالى؟ هو نفس رئيسها الذى شارك فى بيعها منذ ثمانى سنوات(!).
14 – اللهم إنى صائم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة