قبل أيام من ثورة 30 يونيو اتصل بى عند الثانية صباحا الأستاذ أحمد السنديونى الذى يعمل محاسبا بارزا فى الجهاز المركزى للمحاسبات وقال: لقد أرسلت رسالة إلى الدكتور محمد على بشر وزير التنمية المحلية، وأحد قيادات الإخوان أذكره فيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد تنازل عن عبارة «من محمد رسول الله» بناء على طلب المشركين حتى يبرم معهم صلحا، واكتفى باسمه «من محمد بن عبدالله» بينما لا يريد الإخوان أن يحقنوا الدماء باسم الدفاع عن الشرعية، وسأله: أيهما أولى وأرفع مقاما: رسالة الإسلام أم الشرعية التى أعطاها الشعب وقد يأخذها، وبدا فى صوت السنديونى انزعاج وانقباض وهو يقول لى: ما إن وصلت الرسالة إلى بشر حتى اتصل بى وقال لى: إن الذين سينزلون يوم 30 يونيو هم مجموعة من المخربين، وعددهم لن يزيد على بضعة آلاف، وسينصرفون عند منتصف الليل وينتهى الأمر. وتابع السنديونى: حين قلت له: ماذا لو بقى بضع آلاف من الشباب واعتصموا وأصروا على سحب الثقة من الرئيس محمد مرسى؟ فرد بشر سريعا: الجيش سيسحلهم. ولما أبدى له دهشته مما سمع، فسر له بشر كل شىء: هل نسيت أن الدكتور مرسى هو القائد الأعلى للقوات المسلحة والجيش يأتمر بأمره؟ فرد عليه: لكن الجيش سينحاز للناس كما فعل فى ثورة يناير، ففوجئ به يقول له: القائد العام وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسى منا ومعنا، وسينحاز للشرعية، وسينفذ أوامر رئيسه.
طمأنت السنديونى وقلت له: محمد على بشر يريد إحباط الناس بترويج كلام عن انحياز وزير الدفاع للإخوان، والجماعة أشاعت عبر شُعبها ومكاتبها الإدارية فى مختلف أنحاء الجمهورية هذا الكلام لتيئيس الشعب، وردعه قبل أن ينطلق طوفانا عارما فى الشوارع لإسقاط حكم المرشد، ولتعلم أن القيمة المركزية عند القوات المسلحة هى التماسك، وهذا أمر يجعل انحيازها للشعب أمرا حتميا، لأن القوام الرئيسى لها من المجندين المدنيين الذين لن يقتلوا أهلهم كما يمنى الإخوان أنفسهم أو يوهمونها، ولا تنس البيان التحذيرى الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 23 يونيو، ففيه تعبير واضح عن أن الجيش سيقف إلى جانب الإرادة الشعبية.
ومر يومان وجاء يوم الجمعة 28 يونيو فنزلت إلى ميدان التحرير مع النازلين، الذين هتفوا بحناجر قوية: «يسقط يسقط حكم المرشد» و«الشعب يريد إسقاط النظام»، ورأيت كيف أراد الناس أن يستبقوا اليوم الذى تحدد للثورة بالسيطرة على ميدان التحرير، وإعطاء رسالة قوية للشعب كى يلتحق بالطليعة الثورية ويصنع ميادين مماثلة فى كل مكان.
وفى يوم 29 يونيو تلقيت اتصالا هاتفيا من الأستاذ حازم الشافعى وهو ناشط سياسى وحزبى من سكان «حى المنيل» قال لى فيه: أنت جئت يوم جمعة الغضب، 28 يناير 2011، وساهمت فى قيادة مظاهرة أهل المنيل إلى ميدان التحرير، وفى هذا اليوم أسقطنا نظام مبارك بالفعل وكانت بقية الأيام تحصيل حاصل، وتفاؤلا بهذا أدعوك لتأتى فتشاركنا مظاهرة مماثلة تسير إلى الميدان ضد مرسى.
واستجبت، وحين ذهبت وجدت أهل المنيل قد نصبوا منصبة فى منطقة الهلباوى، فلما رأونى جذبونى إليها، فألقيت كلمة حماسية عن أننا سنكمل طريقنا، ولن نغادر إلى بيوتنا حتى نسقط حكم مرسى، وحين نزلت أمسكت سيدة مسنة بكتفى وقالت لى والدموع تترقرق فى عينيها: أنا من حزب الكنبة ولم أشارك فى أى مظاهرة من قبل، ولم أكن أتصور أن أفعل هذا.. شكرا يا أولادنا، علمتونا وشجعتونا، فقلت لها وأنا أشد على يديها: بل نحن الذين نتعلم منكم لأن الشعب هو القائد والمعلم.
كان الجميع هذه المرة يتحدث عن النزول من أجل إنقاذ مصر، وهو هدف مختلف عن أهداف كل المظاهرات التى شاركت فيها منذ اندلاع ثورة يناير، حيث كان المتظاهرون يتحدثون عن إنقاذ الثورة أو نصرتها، ولاحظت أنه منذ وصول الإخوان إلى الحكم أخذ الذين يستوقفوننى فى الشوارع، حيث أمضى، يقولون لى: «خلوا بالكم من مصر» وقبلها كانوا يقولون: «خلوا بالكم من الثورة»، وأدركت أن الإخوان قفزوا على الثورة وركبوها وحولوا دفتها لحساب مشروعهم الخاص بعيدا عن أهدافها الحقيقية فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
حين وصلت إلى الميدان وجدته مكتظا عن آخره، لا مكان فيه لموضع قدم جديد، فطفت حوله لأدخل من باب اللوق إلى ميدان طلعت حرب، الذى كانت كل الشوارع الجانبية النابتة منه تغص بالبشر، من مختلف الطبقات والانتماءات السياسية، مسلمين ومسيحيين، وكان هتافهم يزلزل البنايات الواقفة تحرس ميدان التحرير: «الشعب يريد إسقاط النظام»، ثم انطلق هتاف آخر، صرخت به الحناجر للمرة الأولى منذ ثورة يناير: «واحد.. اتنين.. الجيش المصرى فين».
وكنت قد قطعت المسافة من مدخل ميدان طلعت حرب إلى فوهة التحرير فى وقت طويل، ففى كل خطوة يستوقفنى كثيرون ليسألوا أسئلة من قبيل: متى سنطيح بمرسى؟ وما موقف الجيش؟ وهل السيسى يميل إلى الجماعة أم أنه سينحاز إلى الميدان؟ ومع الإجابات تتولد أسئلة فرعية أخرى وإجابات صغرى.
كنت فى الطريق قد تلقيت اتصالا من الدكتور جمال زهران يخبرنى فيه باجتماع طارئ للأمانة العامة للجمعية الوطنية للتغيير، لتداول الرأى حول ما يجرى وإصدار بيان بشأنه. كان الاجتماع فى مقر مركز المستقبل بشقة فى عمارة تطل على ميدان التحرير، ومن نوافذ الشقة وشرفتها يمكن رؤية جانب كبير من الحشد الذى يزخر به. كان السؤال الذى يدور ما العمل؟ وقبله سؤال: ما الذى سيجرى؟ وثار تساؤل حول موقف الجيش، وبدا بعض الحاضرين غير مرحب بتدخله، وبعضهم يرى أن تدخله ضرورى لمواجهة تنظيم الإخوان والمجموعات الإرهابية والمسلحة التى تحالف معه، وأن القوى الشعبية السلمية لن تتمكن من إسقاط جماعة مستعدة أن تبقى فى السلطة حتى لو سالت الدماء أنهارا، وهو ما ظهر من خلال الخطاب الذى كان بدأ ينطلق من على منصة تقاطع رابعة منذ أن حل به أنصار الإخوان فى 21 يونيو، متوعدين الكل بالويل والثبور وعظائم الأمور إن فكروا فى النزول إلى الشوارع يوم 30 يونيو، فها هو من قال: «أرى رؤوسا قد أينعت وحان وقت قطافها» ويوجد من صرخ «سنسحقهم» وزادهم ذلك الذى نعت كل الراغبين فى الثورة على مرسى بأنهم كفار، وصور الأمر على أنها معركة بين أنصار الدين والملحدين.
يومها سألت الحاضرين: هل أحد منكم يزعم أنه هو الذى أتى بالناس إلى ميدان التحرير؟ ردوا جميعا: لا. فعدت لأسال: هل يملك أحد منكم أن يصدر لهم قرارا بالانصراف أو المكوث؟ قالوا: لا. فقلت: ماذا لو طلب كل هؤلاء تدخل الجيش مثلما جرى فى ثورة يناير؟ هل بوسع أحد أن يمنعهم؟ أجابوا: مستحيل، فقلت: رغم أننى أشاطركم هواجسكم لكن يبدو أن الواقع يسير فى اتجاه لا إمكانية لرده أو تغييره. وبينما أتحدث فإذا بجلبة عارمة ترج الدنيا رجا، جرينا إلى النافذة، فوجدنا أول طائرة حربية قد هلت على فضاء الميدان قاطعة إياه من شرقه إلى غربه وفى ذيلها يرفرف علم مصر، بينما الحناجر تصرخ مرحبة، والهتافات تتعالى صاخبة، والأعلام فى الأيدى ترفرف، وقبل كل هذا كل الأيادى ممدودة إلى السماء التى تسبح فيها الطائرة وكأن أصحابها يقولون: أنقذونا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة