جاءت المسيحية والأديان من أجل الإنسان لكى يعيش حياته على الأرض سعيدا راضيا ناعما بالخيرات التى وهبها الله له، فى الوقت الذى يستعد فيه الإنسان دائماً لمغادرة الحياة الدنيا عند ما يشاء الله له ذلك، أى أن الحياة على الأرض ليست عيباً أو خطيئة فى حد ذاتها، أو أن الإنسان قد خلق للحياة الأخرى فيما بعد الموت، ولا علاقة له بالحياة الدنيا، ولكن هناك خطاب دينى مسيحى يصدر رسالة لمستقبليه على نقيض ذلك، مصوراً أن الحياة لا تستحق أن تعاش، وأنها هى طريق للعبور إلى عالم السماء الذى أعد لأبناء الله - وهذا الخطاب كان نتاجا لظروف خاصة وأخرى تاريخية، الخاصة هى انتشار فكرة الرهبنة فى الكنيسة الأرثوذكسية، وهى فكرة فردية شخصية اختيارية لا علاقة لها بالمسيحية، وإلا كان كل المسيحيين رهباناً، تعتمد على الابتعاد عن الحياة الاجتماعية «الأب والأم والأسرة والأصدقاء»، والهرب إلى الجبال بهدف التعبد والتقشف لكسب الحياة الأخرى التى هى نقيض الحياة على الأرض حسب مفهوم الرهبنة، أما الظروف التاريخية هى عصر الاضطهاد الرومانى للمسيحيين فى مصر الذى بدأ عام 284 من التقويم القبطى، الذى هو التقويم المصرى القديم، وبذات الشهور على يد دقلديانوس الحاكم الرومانى الذى عذب وقتل آلاف الأقباط المتمسكين بدينهم، ذلك قبل إعلان الدولة الرومانية المسيحية، ولما كانت نشأة الرهبنة متواكبة مع عصر الاضطهاد والشهداء فى الوقت الذى استولت فيه الرهبنة على القيادة الكنسية «أساقفة وبطاركة»، فظهر وتعمق هذا الخطاب الذى يعلى من ثقافة الموت والاستشهاد، مع العلم أن المسيحية تقول «أتيت لكى يكون لكم حياة ولكى يكون أفضل»، «أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله».. أى أنه لا تناقض بين أن يعيش الإنسان حياته وأن يستعد للحياة الأخرى، كما أن هذا الخطاب يطبق آيات الاضطهاد التى فى الإنجيل على الحاضر وهى آيات تمت عبر التاريخ ولا علاقة لها بالحاضر، فى الوقت الذى يستغل فيه هذا الخطاب الاستشهادى للتمايز والتفاخر عن باقى الكنائس، مع العلم أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية شهدت اضطهادات لا تقاس فى العصر الحديث ولا نجد هذا الخطاب، والناتج السلبى لهذا الخطاب آثاره لا ترتبط بماض، ولكنها تتخطى الحاضر وتشكل المستقبل، فخطاب الاستشهاد يجذب الشباب، ويحول حماسهم وتمسكهم الدينى إلى طاقة سلبية، وليست إيجابية، فالشباب يستحسن ويستملح الشهادة طالما هى فى سبيل الدين، وحماية للعقيدة، وطريق الوصول إلى السماء بدون معاناة وممارسة روحية، وسميت الكنيسة الأرثوذكسية بكنيسة الشهداء، وبأم الشهداء، وهنا لا نسقط التاريخ بل نعتز بهذه المرحلة التاريخية المجيدة، ونعتز بهذا الاستشهاد الذى كان ابن عصره ونتاجا لظروفه، ولكن أن نصر على الهجرة إلى الماضى، وأن يستغرقنا التاريخ فى لجج أمواجه، ويبعدنا عن مواجهة الحاضر كما ينبغى، وعن الاستعداد للمستقبل كما يجب، فهذا هو الخطاب الخطأ، فلا يجب المزايدة والمبالغة بإنتاج أفلام دينية تصور الاستشهاد للقديسين وبهذه الصورة المبالغ فيها والتى لا علاقة لها بالتاريخ ولا العقل ولا بالمنطق المسيحى، فهذه الأفلام وتلك المبالغات نتائجها وخيمة فهى تكرس ثقافة منغلقة سلبية، تربى التعصب، وتخلق حالة تمايز افتراضية، وتدعو إلى التطرف حتى وإن كان تطرفاً سلبياً، بل تعمل على تغييب العقل وتسطيح الوعى، فهل هذه هى القيم المسيحية؟ وهل هذا فى صالح أحد؟ وهل هناك صراع على ثقافة الاستشهاد بين من لهم ثقافة دينية خاصة فى المسيحية والإسلام، الله أحبنا فخلقنا وأوجد لنا الدنيا وسخر لنا الأشياء، لنعيش ونعرفه، فننعم بالحياة، وتستعد للآخرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة