لا يوجد شعب بلا قصص ولا أساطير. وبين السرد والإيهام، تولد قيم وأفكار ورؤى واتجاهات على ضفاف الجمال الخالص والإبداع الخلاق. وطالما كانت الفنون بمختلف ألوانها تغرى أولئك الذين يرومون رفعة وتقدما ورقيا فى المعاش لأمة من الأمم، أو من يريدون لها أن تسير فى الطريق المخالف، فتعود إلى الوراء وتسقط مذمومة مدحورة.
لا يعنى هذا أبدا أن حرف الأدب عن مساره هو عمل محمود، فإقحام الأيديولوجيات والمواقف السياسية المباشرة على الفن يضعف جماله، وينال من حلاوته وطلاوته، وقد يمتهنه وينتهك طبيعته وشكله فيحوله إلى منشور أو خطبة عصماء. لكن هذا لا يمنع أن التمسك بالجمال الخالص يعنى بالضرورة هجر المضمون أو القبول بتهافته. فمن يكتب ومن يقرأ لا يقومان بهذا الفعل فى الفراغ أو يبدآن من الصفر، إنما لكل منهما تجربة حياتية ومنظومة قيم ونسق من الأفكار وثوابت من العقائد يحيل إليه ما يبدعه وما يتلقاه ولو فى اللاشعور.
وقد فطن صناع السياسات إلى قيمة الأدب فى فهم نفسية الشعوب ومدى قابليتها للاستغذاء أو قدرتها على الممانعة، فأخضعوا موروثها من الفن الشعبى وكذلك ما تنتجه نخبتها من شعر ونثر إلى الدراسة العميقة حتى يمكن تحديد سبل التعامل معها. ولهذا درس الأمريكيون آداب اليابانيين إبان الحرب العالمية الثانية، ودرس الإسرائيليون آداب العرب، وأدرك الغرب الرأسمالى أن الأدب أحد الأسباب الرئيسية لانتشار الاشتراكية فى العالم من خلال تصويره أشواق الفقراء والمهمشين إلى العدالة والكفاية والمساواة، فأخذ يشجع النظريات النقدية والأعمال الإبداعية التى تنزع إلى الجمال البحت والغموض المحير، ودخلت على الخط فى هذه الناحية أجهزة مخابرات فى مقدمتها "سى.آى.إيه" التى تدرس الأدب لمعرفة نفسية الشعوب، وساعدت على انتشار الآراء النقدية التى تبعد الأدب عن سياقه الاجتماعى. وصدر كتاب "الحرب الثقافية الباردة" الذى ترجمه الأستاذ طلعت الشايب ليفضح هذا المسلك، وهو عبارة عن أطروحة دكتوراه للباحثة الفرنسية.
وفى ركاب هذه التوجهات أدركت "الصهيونية العالمية" أهمية الأدب فى التغلغل إلى عقل الأمم المغايرة ونفسها، قدر توسلها بالأيديولوجيات السياسية ذات الطابع الأممى لتحقيق الغرض ذاته. ولهذا ظهر ما يسمى بـ"الأدب الصهيونى التقدمى" نازعا إلى خداع الآخرين ودفعهم إلى التسامح مع والتساهل فى والتغاضى عن التصرفات العنصرية للصهيونية فى الواقع المعيش. وقد وقع فريق من اليساريين العرب فى هذا الفخ وهم يدركون ما يفعلون، بينما سقط فى هذه الحبائل كثيرون دون دراية ولا وعى.
وقد ظل هذا المسار محل غموض والتباس، ولم يعن به العقل العربى عناية تامة، وبات الأمر يحتاج إلى مزيد من الفحص والدرس لتبديد هذه الخرافة أو فضح هذا المخطط، بما يجلى كل شىء فى أذهاننا، ويصفيه فى نفوسنا، ويرسم لنا معالم طريق وسيع فى التعامل مع الآداب والفنون المنتجة فى إسرائيل، لاسيما فى هذه المرحلة التى تشهد تبريرا متصاعدا لترجمة الأدب الإسرائيلى من دون تدقيق شديد بين الغث والسمين، وما ينفعنا والذى يضرنا، وما نحتاجه كى نفهم كيف يفكر الإسرائيليون وما يشغل صدورهم؟ وكيف يروننا نحن العرب؟ وكيف ينظرون إلى العالم بأسره؟ وما هى طبيعة العلاقات الاجتماعية التى تحكم حياتهم؟ وما هى رؤيتهم لمستقبل دولتهم التى زرعوها فى أرضنا؟ وما حظ الفروق بين "اليهود" و"اليهودية" و"الصهيونية".
وهذا التدقيق يحتاج إلى ما هو أعمق وأزيد من قراءة الأدب الإسرائيلى مباشرة ودون وسائط للوقوف على مضمونه ومراميه. ففى حقيقة الأمر يجب أن نقيم الدراسات التى تفكك هذا الأدب وفق الخلفيات المعرفية والأيديولوجيات السياسية والفلسفات التى تحكم عقول مبدعيه وعملية إنتاجه.
من هذا المنطلق تأتى أهمية دراسة الباحث القدير حاتم الجوهرى التى وسمها بـ"نقد رؤية أدباء الصهيونية الماركسية للصراع العربى الصهيونى" لترمم الشروخ التى لا تزال متواجدة فى كثير من الدراسات العربية حول الأدب الصهيونى، وتزيل كل ما علق فى الأذهان من أوهام حول إمكانية أن تكون هناك نزعة تقدمية أممية وإنسانية فى هذا الصنف من الأدب، وتفضح هذا اللون من "الاحتلال الناعم" الذى يقوم به الصهاينة لعقول "الأغيار" من مختلف الثقافات والحضارات والديانات والمذاهب، وتُجلى الروابط والارتباطات الخفية بين الأدب الصهيونى وكثير من نظريات وتمثلات وتطبيقات ما بعد الحداثة فى الفنون والآداب والأفكار والفلسفات التى تسربت إلى الأوساط الأكاديمية فى العالم وأوجدت، مع مرور الأيام، منساقين وراءها، ومدافعين عنها، وراغبين فى ترسيخها وتعزيز دورها. كما تفضح هذه الدراسة مكر ودهاء منتجى هذا اللون وهم يسربون أفكارهم فى نعومة وانسياب، وتتبع خطواتهم التى تتسلل خلسة إلى الفنون والأفكار.
ولم يكتف الباحث فى دراسته المهمة، التى حاز بها درجة الماجستير فى الأدب العبرى الحديث من جامعة عين شمس، بالجوانب النظرية بل التقط بعناية ودراية فائقة واحدا من الأدباء الذين ينتمون بقوة إلى هذه الظاهرة وأخضع إنتاجه لاختبار المقولات والافتراضات التى تبنتها الدراسة، ألا هو الشاعر يتسحاق لاءور، الذى قامت على كتفيه دورية فصلية تحمل اسم "ميتعم" لم يمض وقت طويل على صدروها حتى باتت المنبر ذائع الصيت لأدباء ونقاد "اليسار الماركسى". ولعل دراسة الحالة تلك أعطت البحث عمقا، ومكنته فى إيجاد البراهين الناصعة والحجج الساطعة على التصورات التى انطلق منها، والتى لم تخف كراهية وغيظا وعداء لظاهرة "الأدب الصهيونى التقدمى" الملغزة والغامضة والمسكونة بالتوجس والخطرة.
ويحمد للباحث أنه لم يذهب مباشرة إلى الدراسة التطبيقية بل وصل إليها عبر طريق وسيع شقه بفهم وإدراك وانحياز تام إلى الحق والحقيقة مارا بمحطات مهمة كشف فيها جذور ومبادئ "الصهيونية الماركسية" وخرافة التقدمية، حيث تتبع ظروف نشأتها، ووقف على أسباب تحول اليسار اليهودى نحو فكرة "القومية الصهيونية" فى أوروبا وخارجها، وموقع الدين منها، وتوزعها على الأفكار الليبرالية والماركسية والاشتراكية، ومسارات مستقبلها، وخطيئة هذا اليسار حيال "المسألة الفلسطينية"، ثم موقف اليسار العالمى والعربى من نظيره الصهيوني. ثم انطلق من هذا الفضاء العام إلى مجال أكثر تخصيصا وتحديدا فدرس "البناء النظرى للأدب الصهيوني" ليشرح سماته وتوزعه على القومى والسياسى والملحمى والعالمى، ويرسم ملامح نزعته التبشرية والموجهة، ويبين القضايا الرئيسية التى تشغله وهى تبرير فكرة الصهيونية، والشكوى من الاغتراب والبحث عن الخلاص، وصراع الهوية وتشتت الولاء، ورسم حدود العلاقة بين الصهاينة و"الآخر"، والانشغال بفكرة "أرض الميعاد" والموقف من التراث والدين والحرب والسلام. ويمر الباحث على موضوع استعمال الأدب الصهيونى وتوظيفه كأداة للحرب، والمسار الذى سلكته الفكرة الصهيونية فى الأدب العبرى المعاصر.
لقد سبق أن اطلعت على كثير مما أنتجه عبد الوهاب المسيرى ورشاد الشامى وحسن ظاظا وغيرهم حول "الصهيونية" وهو يشكل أرضية صلبة لقيام دراسات تفصيلية وفرعية حول هذه الظاهرة، بحيث نقف عليها من شتى جوانبها، ونكشف ألاعيبها المتجددة التى لا تنتهى، ونحوز حصانة ومنعة حيالها، ونمتلك سبل مواجهتها ومهاجمتها فى عقر دارها، فنصدها ونردها على أعقابها خاسرة.
د. عمار على حسن
كيف توظف الصهيونية الأدب فى التغلغل إلى عقل الأمم المغايرة؟
الخميس، 10 يوليو 2014 11:03 م
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة