حمدى قنديل له موقفٌ واحدٌ لا يتبدل ومعيارٌ ثابتٌ لا يتغير.. هو مع مصر والعروبة
فى المعايير المهنية كما فى العلوم المادية، هناك وحداتٌ قياسية يُقاس بها ويُنسبُ إلى كمالها.. فالوحدة القياسية فى الغناء هى أم كلثوم، فنقول مثلاً إن المطربة فلانة صوتها رُبع أو نصف أو صفر أم كلثوم.. وفى الصحافة يُنسب إلى الأستاذ هيكل.. وفى النقد الرياضى يُنسب إلى نجيب المستكاوى.. وفى فن كرة القدم يُقال إن فلاناً مثل محمود الخطيب.. أما فى الإعلام فالحمد لله الذى حبانا حمدى قنديل ليكون وحدة القياس الإعلامية الكاملة.. هذا رجلٌ يجمع بين المهارة المِهنية والنقاء الوطنى.
كلما ضجّ الناس بهذا الطفح من الكائنات الزاعقة أو الجاهلة أو الوقحة أو المرتشية أو المُبتزّة «أو كل ذلك معاً» التى تنسب نفسها إلى مهنة الإعلام، ازداد حبّهم وتقديرهم واشتياقهم لحمدى قنديل «فبضدها تتميز الأشياءُ».. وكلما زاد الطفح تطفو على سطح الذاكرة أسماء محترمة «حالية أو راحلة».. لكن يظل المثل الأعلى فى هذا المجال هو حمدى قنديل.. حمدى قنديل هو الكبير، ليس فقط للُغته العربية الجزلة والسلِسة.. وليس فقط لصوته القوى الرخيم.. وليس فقط لكاريزمته، والقبول الربّانى لدى المشاهدين.. وليس فقط لثقافته الواسعة التى تجعله يُمسك بناصية الحوار أيّاً كان المُحاوَر.. ولكن أيضاً لأنه الوحيد تقريباً الذى لم يمسك العصا من المنتصف.. فى أيام مبارك «لا أعادها الله»، حافَظ كثيرون من الإعلاميين المحترمين على مسافةٍ آمنةٍ من خط رضا النظام، تضمن لهم استمرار برامجهم «وأرزاقهم».. وارتضى آخرون لأنفسهم أن يكونوا أبواقاً لما يُمليه عليهم النظام.. بل إن بعضهم هم الذين سعواْ إلى النظام لكى يقبلهم نعالاً فى أحذيته، يدوس بها معارضيه.. إلا حمدى قنديل.. كان هو الذى سعى إليه النظام لأنه يعرف قيمته، فرفض أن يستمر إلا بشروطه هو.. ولم تكن شروطه ماديةً كآخرين، وإنما شروط الحرية واحترامه لنفسه واعتداده بها.. فطُورد على مدى عِقدٍ كاملٍ من قناةٍ إلى قناة.. ومن دولةٍ إلى دولةٍ.. ومن رئيس التحرير إلى قلم رصاص.. لكنه ظلّ دائماً صوت الشعب وسوطه فى وجه الفاسدين والظالمين.
كأشهر الإعلاميين العالميين، كان الحكام العرب هم الذين يسعوْن للقائه.. وألزمته المهنية أن يحاور حتى من كان يتحفظ على أدائهم.. ولم يجد حَرجاً فى أن يسحب رضاه عن بعضهم، عندما تبدلّت مواقفهم.. جهةٌ واحدةٌ رفض أن يظهر على شاشاتها، هى قناة الجزيرة.. ولسببٍ مبدئىٍ.. أنها طبّعت مع إسرائيل إعلامياً.. كان هذا الموقف مبكراً جداً قبل أن يكون هناك خلافٌ سياسى مع الحكومة القطرية.
حمدى قنديل ليس فقط أميراً للإعلاميين العرب.. ولكنه أيضاً قامةٌ وطنيةٌ وعروبيةٌ كبيرة.. أعزّ الله به الحركة الوطنية المصرية فى العامين الأخيرين لمبارك.. وكانت عودته لمصر بعد إيقاف برنامجه فى دبى «لأن الجماعة زعلانين» فتحاً مبيناً لكفاية وروافدها، إذ أنه اندمج سريعاً فى حركة المقاومة الواسعة لنظام الفساد والاستبداد.
لا يُبدّل حمدى قنديل مواقفه كما يتراءى لمن لا يعرفه، أو للذى فى قلبه مرض.. حمدى قنديل له موقفٌ واحدٌ لا يتبدل ومعيارٌ ثابتٌ لا يتغير.. هو مع مصر والعروبة.. ومع من يصطف معهما.. ولا يتحرج من تبديل موقفه من أى إنسانٍ إذا تبدّل موقفه منهما.
فهو لم يجد حَرجاً فى التعبير عن استبشاره ببشار الأسد فى بداية حكمه كشابٍ مدنىٍ مثقفٍ، يمكن أن يقود تحولاً ديمقراطياً فى بلده.. ثم لم يجد حرَجاً فى انتقاده عندما وجده امتداداً لممارسات أبيه القمعية.. ولم يجد حرجاً فى تأييد البرادعى عند عودته لمصر.. ثم لم يجد حرجاً فى أن يكون أول المختلفين معه.. كُنّا قد اكتشفنا سريعاً عيوباً فى شخصية الدكتور البرادعى «لا فى ضميره ولا وطنيته» من بينها انسحابيته المفاجئة وضعف قدرته على العمل فى فريق.. وحدث خلافٌ كبيرٌ بينهما أثناء معالجة أزمة ترحيل عددٍ من المصريين من الكويت، لعقدهم اجتماعاً لتأييد المطالب السبعة للجمعية الوطنية للتغيير.. بعدها بأسبوعٍ سافرتُ مع حمدى قنديل وجمال فهمى إلى مؤتمر المنظمة العربية لمكافحة الفساد فى بيروت عن «الفساد والإعلام».. وأشهد أن حمدى قنديل ظلّ على مدى الأيام الثلاثة إلى أن عدنا للقاهرة، مهموماً بهاجس أن الواجب أن نصارح المصريين بعيوب البرادعى، وكان رأيى أننا لسنا مضطرين لذلك، لا سيما أننا لا نطرح البرادعى كرئيسٍ لمصر، وإنما كشريكٍ ثقيل الوزن فى التنادى بتطبيق المطالب السبعة للديمقراطية فى وجه مشروع التوريث، وأن المستفيد الوحيد من انتقاده الآن هو نظام مبارك.. لم يقتنع وانتهز أول لقاءٍ عامٍ بعد أيام وقال «إن البرادعى مثل شمس الشتاء.. لا تكاد تظهر حتى تغيب» مُنتقداً كثرة سفرياته غير المبررة.. ولم يُستدرج للدد فى الخصومة العلنية مع الرجل.
كان سخياً فى دعم صندوق مساعدة الشرفاء الذى أنشأناه لدفع الغرامات القضائية عن المناضلين الذين استُدرجوا لقضايا سب وقذف مع الفاسدين.. ومواقف كثيرة، أذكر منها اتصاله بى فى الأيام الأولى لاعتصام التحرير، وكان الجو قارس البرودة، وهناك صعوبةٌ فى إدخال بطاطين للميدان.. قال لى إنه سيرسل 100 بطانية إلى عيادة الدكتور عبدالجليل على مشارف الميدان ليمكن تسريبها ليلاً.. بعد قليلٍ جاءنى سائقه ومعه 120 بطانية، وقال لى إن تجار الأزهر عندما علموا الهدف من شراء البطاطين واسم المشترى تبرعوا بعشرين بطانية إضافية إكراماً للثورة ولحمدى قنديل.
أشفقتُ عليه وعلى الدكتور عبدالجليل مصطفى، عندما ظهرا فى صورة فيرمونت الشهيرة.. ثم ثبت أنهما كانا على الحق، إذ أن التصويت الرئاسى كان قد انتهى بالفعل قبلها بأيام ولم يتبقَ إلا إعلان النتيجة، ولكنهما ومن معهما نجحوا فى استنطاق واستكتاب مرسى وإخوانه وُعوداً لمصر فى حالة فوزهم، صارت حُجةً على مرسى ودليلاً على سوء طويته، عندما نكص عنها بعد ذلك. وعموماً فقد كان حمدى قنديل من النقاء بحيث أنه قال لمنى الشاذلى فى مساء نفس اليوم، إنه يعلم أن الإخوان لا عهدَ لهم ولكنه قبِل عهدهم صباح اليوم، رغم ما قد يتعرض له من هجومٍ، على أمل أن يصدقوا هذه المرة فيكون هذا فى صالح مصر.
على المستوى الشخصى فقد أعزّنى الله بصداقته «مع الاحتفاظ بفارق القيمة والقامة والتاريخ». ولا زلتُ أذكر أول لقاءٍ به.. كنتُ فى أحد المؤتمرات منتظراً فى بهو الفندق، ودخل حمدى قنديل نجماً لامعاً تلهث وراءه وسائل الإعلام، ويلتف حوله الصحفيون والنزلاء يلتقطون صوراً معه، فإذا به يلمحنى من بعيد «ولم نكن قد التقينا من قبل» ويهتف فاتحاً ذراعيه «يحيى باشا» ويلتقط صورةً معى، ونتبادل أرقام الهواتف وكأننى أنا النجم لا هو.. يالتواضع الكبار «وتلك إحدى سِماته التى يعرفها كل من اقترب منه».
كان هذا لقاءً عابراً، لكن أول لقاءٍ حقيقىٍ له قصة.. فقد كنّا مدعوين فى أحد الفنادق لاحتفال نقابة الأطباء بخروج الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح من المعتقل، وانتقل الأستاذ حمدى قنديل، والدكتور عبدالجليل مصطفى والمهندس أحمد بهاء الدين شعبان، وكاتب هذه السطور إلى كافتيريا الفندق للتدارس حول كيفية توحيد جهود الحركة الوطنية، وحل خلافاتها التى لا تنقطع.. وبعد اللقاء قال الأستاذ حمدى «سيارتى ليست معى الآن فمن منكم معه سيارة متجهة صوب مصر الجديدة، وإلا فسأستقل تاكسى؟» فأجبناه كلنا.. ولكنه قال أنا أُفضّل أن أركب مع يحيى بك.. قلتُ له «هذا شرفٌ كبيرٌ لى ولكننى ألفت نظرك إلى أنها ليست سيارةً بالمعنى المعروف» فقال «لهذا أُصّر على أن أركب معك» وقد شرفّنى بعدها بكتابة مقالً عن هذه السيارة كان بمثابة بلاغٍ إلى المرور، إذ ذكر أنها ليست خالية من الكماليات فقط، وإنما ينقصها بعض الأساسيات.. فى الطريق إلى منزله تناقشنا فى أمورٍ كثيرةٍ، من بينها الأذى الذى نتعرض له فى مواجهة النظام، فأخذ يهوّن علىّ ويُصبّرنى إلى أن قال «يكفى أن تنظر إلى المرآة فترى شخصاً محترماً».. فقلتُ له «هذه تخصك أنت وتنطبق عليك».
حمدى بك.. أيها المصرى العروبى المحترم.. والكبير فوق الصغار والصغائر.. دُمتَ لمصر.. وبمناسبة عيد ميلادك الذى توافق مع عيد الجلاء يوم 18 يونيو.. كل سنة وأنت طيب.. ومصر التى تحبها وتحبك طيبة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة