لأول مرة فى تاريخ مصر يصدر قانون يلغى بأثر رجعى أحكاماً قضائيةً صدرت بالفعل وواجبة النفاذ.. هذه هى الخلاصة الكارثية الكاشفة والشارحة لقانون جذب الفاسدين وطرد المستثمرين الجادين الذى صدر فى الأسبوع الماضى، وعُرف باسم قانون تقييد الطعن على العقود.. ولو لم يكن بهذا القانون إلا هذه المصيبة لكان ذلك كافياً لرفضه، إلا أنه اشتمل على مصائب أخرى.. إلغاء الأحكام القضائية ووقف نظر الدعاوى مصيبة فى حد ذاته، فما بالكم إذا كانت هذه الأحكام المُلغاة كاشفةً لفساد عصر بأكمله يُراد ستر عوراته بهذا القانون ليبدأ من جديد.. أىُ عار لحق بنا! ولماذا؟ أمن أجل عيون نفس اللوبى الملعون من أصحاب التوكيلات الفاسدين وشركائهم الأجانب؟.. يا رب.. تسقط أعتى الأنظمة فى مصر واحداً تلو الآخر ولا يسقط هذا اللوبى المتوحش من رجال الأعمال الذين لا يشبعون من المال العام أبداً.. الذين ما أن يتعرض أحدهم للسقوط حتى يصطف بعيدهم وقريبهم، صغيرهم وكبيرهم، صحفهم وفضائياتهم، كالبنيان المرصوص لقلب الحقائق والدفاع عن فسادهم.. وما أن تظهر قطعة لحم على جسد الوطن الهزيل المنهك إلا وانقضوا عليها كالطيور الجارحة دونما رحمة.. لوبى عابر للأنظمة.. تحلقوا حول ابن مبارك فى السنوات الأخيرة من حكمه وعاثوا فى الأرض فساداً وراكموا ثرواتهم من المال الحرام وكانوا سوأته التى أثارت الشعب عليه، فسقط مبارك وابنه ونظامه ولم يسقطوا هم.. ثم غيّروا ملّتهم السياسية مع مجىء الدكتور مرسى وقفزوا برشاقة يُحسدون عليها على أكتاف نظامه، إلى أن سقط مرسى ونظامه ولم يسقطوا هم.. وها هم يتكالبون على متخذى القرار فى النظام المؤقت المحترم الذى ارتضاه المصريون بعد 30 يونيو ويدفعون رجالاً مثل عدلى منصور وإبراهيم محلب وغيرهما لإصدار هذا القانون المعيب وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا.. وأخشى أن يكون هذا اللوبى نذير شؤم على الرئيس القادم الذى تتعلق به آمال المصريين ما لم يفطن إلى خطرهم ويغسل يديه منهم.
هذا القانون مُهين شكلاً وفاجر مضموناً وكارثى النتائج، وقائم على حزمة من الأكاذيب المضللة التى نجحت فى إقناع الكثيرين بجدواه (منهم كُتّاب وإعلاميون لا نُشكك فى وطنيتهم ولا طهارتهم).. حملة تضليل شرسة تُذكرنا بتلك التى تم إطلاقها للترويج لبرنامج الخصخصة فى بدايته (هل تتذكرون التأكيد بأنه لن تُباع إلا الشركات الخاسرة؟! وهل حوسب أحد ممن أطلقوا هذه الأكاذيب من قبل؟). كنا نحسب أن الرئيس سيترك أمر هذا القانون للرئيس والبرلمان المنتخبين القادمين، لكن يبدو أن اللوبى المشار إليه قد أقنعوه بسرعة إصداره لجذب خير عميم سيأتى فى اليوم التالى لتوقيعه ولن ينتظرنا عدة شهور.. أو لتجنيب البلاد ويلات رهيبة ستحيق بنا ما لم يصدر القانون الآن وفوراً.. وكلا الافتراضين كذب فى كذب.
أولاً: الإهانة والانبطاح:
لم ينفِ أحد ما قيل من أن ضربة البداية فى هذا القانون اللامعقول جاءت فى اجتماع مجلس رجال أعمال مصريين مع نظرائهم (أو شركائهم) فى دولة عربية شقيقة.. فضفض فيه أحد الأشقاء بما يتصوره جاذباً لأمثاله، ومتطاولاً على القضاء المصرى الجليل، ومتشرطاً إصدار قوانين بعينها منها هذا القانون.. ولا أعتقد أنه تصور أن مثل هذه الفضفضة يمكن أن تتحول إلى واقع.. بل لعله توقع أن يلومه نظراؤه (أو شركاؤه) المصريون على جرأته على القضاء المصرى.. ولكن لأن هذا اللوبى لا وطن له إلا جيبه، إذا بهم يتلقفون هذه الهرتلة التى لا تليق ويرددونها فى القاهرة على استحياء فى البداية، ثم بدأ صوتهم يعلو رويداً رويداً، مع حملة ترويع ممنهجة من تحكيمات دولية فى انتظارنا بمئات المليارات من الدولارات (هكذا) ما لم يصدر هذا القانون الذى صدر فعلاً دونما أى اعتبار إلا لهذه الشلة اللعينة.
إن رجل الأعمال الذى يشترط تقليص سلطة القضاء لن يأتى فى الأرجح إذا انبطحنا له وإنما سيطالبنا بمزيد من الانبطاح.. وسيذهب باستثماراته كما اعتاد إلى البلاد التى تحترم قضاءها ومواطنيها.
ثانياً: ما هو القانون ببساطة:
1 – المادة الأولى من القانون تقصر حق الطعن على العقود التى تبرمها الدولة على طرفىْ العقد فقط (بالإضافة لأصحاب الحقوق الشخصية والعينية على الأموال محل التعاقد).
والدولة هنا لا تعنى الشركات القابضة فقط كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما كل أجهزتها من وزارات ومصالح وأجهزة لها موازنات خاصة ووحدات الإدارة المحلية والهيئات والمؤسسات العامة.. أما أصحاب الحقوق الشخصية فليسوا العمال أو المواطن العادى صاحب الحق الأصيل فى هذا المال العام الذى يُعبثُ به، وإنما هم من يملكون أسهماً أو قطعة أرض أو عقار فى الشركة أو الشىء المُباع محل التعاقد.
إن هذا القانون يفترض أن موظفى الدولة القائمين بصياغة وإبرام التعاقدات هم مجموعة من الملائكة الأطهار الذين لا يخطئون وإن أخطأوا سيقومون بالتكفير عما اقترفوه بالطعن على أنفسهم، أو سيقوم شركاؤهم فى الفساد بهذه المهمة.. وهو افتراض استهبالى.. فلو أن مسؤولاً فى إحدى وحدات الإدارة المحلية أبرم عقداً فاسداً مُهدراً للمال العام مع أى طرف (صاحب فرن أو شركة توزيع أنابيب محلية أو طرف أجنبى)، فليس لأحد أن يتدخل بينهما إلى أن يستيقظ ضمير أيهما ويُكفر عن فساده بالطعن فيما أبرمه.. أما فى حالة شركات الخصخصة فلنأخذ صفقة عمر أفندى مثالاً.. وهى فاسدة فاسدة فاسدة.. فلو كان هذا القانون موجوداً قبل أن يحكم القضاء الجليل لمجلس الدولة ببطلانها، لكنا حتى الآن فى انتظار أن يطعن محمود محيى الدين أو جميل القنيبط فى الصفقة التى أبرماها وأخفيا عقدها عن الرأى العام عاماً كاملاً!!
2 - أما المادة الثانية من القانون فهى التى أشرنا إليها فى بداية المقال وتمنع مجلس الدولة من الاستمرار فى نظر دعاوىً أخرى منظورة أمامه، فضلاً عن منع المحكمة الإدارية العليا من تأييد أو إلغاء أى أحكام صدرت من محكمة القضاء الإدارى بغير الطريق الذى حددته المادة الأولى.
3 – القانون يتعارض مع الدستور بوضوح شديد فى عشر مواد على الأقل، أوضحها التعدى على الحق الدستورى للمواطنين أصحاب هذا المال العام فى الدفاع عنه (مادة 34) وحقهم فى التقاضى (مادة 97)، وتقييد عمل مجلس الدولة وهو هيئة قضائية مستقلة (مادة 190).
ثالثاً: الأكاذيب التى سيقت لتبرير القانون:
1 – إن القول بأن السبب وراء القانون هو سوء استغلال حق التقاضى، مردود عليه بأن ساحات القضاء العادى تعج بالعديد من البلاغات الكيدية أو الباحثة عن الشهرة الإعلامية، فهل يكون الحل هو حرمان الجادّين من حق التقاضى؟ أم يُترك الأمر كما يحدث الآن للنيابة التى تحفظ البلاغ أو تحيله للقضاء الذى يرفض بدوره الدعوى غير الجادة أو يحكم فيها؟ هذا ما يحدث فى القضاء العادى فلماذا لا نترك لمجلس الدولة أيضاً الحق فى تقدير جدية البلاغ والاستمرار فى الدعوى أو رفضها؟ مع تشديد العقوبة على من تثبت كيدية دعواه. مع ملاحظة أن مجلس الدولة هو الجهة القضائية المختصة دون غيرها بالنظر فى صحة العقود.
2 – توحى الهجمة الممنهجة بأن مجلس الدولة أعاد مئات الشركات المخصخصة وأنها كلها ستُنظر فى التحكيم الدولى الذى سيُديننا فيها جميعاً.. وهو أمر مُجاف للحقيقة.. بينما الحقيقة أنه من بين مئات البيوعات التى تمت لم يحكم قضاء مجلس الدولة حكماً نهائياً إلا ببطلان عقود ست شركات فقط، بينما حَكَم بصحة عقود أخرى كان آخرها شركة بنى سويف للأسمنت منذ أسابيع قليلة. الحقيقة أن هذا القانون هو بمثابة عفو شامل عن كل من أشرفوا وشاركوا فى صفقات الخصخصة فى الماضى، وتحصين العقود الفاسدة على مستوى الدولة بكل أجهزتها فى المستقبل.
3 - تم استخدام فزاعة التحكيم الدولى بكثافة فى حملة الترويع الممنهجة وصار كل من هب ودب يتسابق فى تقدير القضايا المرفوعة على الدولة المصرية حتى أوصلها أحدهم إلى مئات المليارات من الدولارات (هكذا).. وكان أقل رقم قيل هو تصريح السيد المستشار رئيس هيئة قضايا الدولة بأن هناك تهديدات تحكيم فى حدود مائة مليار جنيه. ولا بد فى البدء من ملاحظة أن هناك خلطاً متعمداً بين الإنذار باللجوء للتحكيم الدولى وقبول دعوى التحكيم والتحكيم نفسه. فالإنذار هو أن يُرسل أحدهم ورقةً إلى الشركة القابضة مهدداً إياها بأنها إذا نفذّت حكم القضاء باسترداد الشركة سيقوم سيادته باللجوء للتحكيم الدولى طالباً تعويضاً قدره 10 مليارات دولار مثلاً أو أى رقم يحلو له، ولا يجوز هنا أن نضيف نحن هذا الرقم للفزاعة مفترضين أنه سيرفع الدعوى (بينما معظم العقود والحمد لله لا تنص على اللجوء للتحكيم الدولى أصلاً)، ومفترضين أن مركز التحكيم سيقبل نظرها (غالباً ما يرفض نظرها من حيث المبدأ)، ومفترضين أنه إذا نظرها سيُدين الحكومة المصرية، (بينما وفقاً لتصريح هيئة قضايا الدولة فإن الحكومة المصرية لم تخسر تحكيماً واحداً فى السنوات الأخيرة)، ومفترضين أن مركز التحكيم إذا أداننا سيحكم بالمبلغ الذى طلبه سيادته دون تخفيض. لن أتعامل مع الأرقام العشوائية اللا معقولة التى يرددها اللوبى بغير دليل، وسأتعامل فقط مع تصريح السيد المستشار رئيس هيئة قضايا الدولة لأنه رئيس الجهة الرسمية الوحيدة التى عندها الرقم الصحيح، باعتبارها محامى الحكومة المسؤول عن الدفاع عنها فى مثل هذه القضايا محلياً ودولياً.. ولكى لا يُستخدم تصريح السيد المستشار الجليل فى تبرير ما لا يُبرر فإننى كمواطن من أصحاب هذا المال العام الذى تدور حوله هذه المعارك أطمع فيما يلى:
أ – بيان تفصيلى يوضّح ما يخص أحكام بطلان عقود خصخصة شركات قطاع الأعمال من هذا الرقم، وهى ستة أحكام فقط، مع توضيح معنى الرقم المذكور فى كل حالة: هل هو مجرد إنذار باللجوء للتحكيم أم أن الدعوى قد رُفعت فعلاً؟ وفى هذه الحالة هل تم البت بقبول الدعوى وتحديد موعد لنظرها (لأن هناك دعاوى يتم رفضها من البداية).
ب - إن السيد المستشار المتحدث باسم هيئة قضايا الدولة قد قال فى مداخلة تليفزيونية إن الشركات التى عادت للدولة قد كلفتنا تعويضات بملايين الجنيهات.. أرجو التفضل بتفصيل هذه التعويضات لكل شركة من الشركات الست التى عادت، حيث إن المعلومات المتوفرة هى أن مليماً واحداً لم يُدفع كتعويضات لهذه الشركات.
رابعاً: خواطر حول القانون:
1 – على العكس مما يُقال من أن هذا القانون سيجذب المستثمرين، أعتقد أن العكس هو الذى سيحدث.. فلا أعتقد أن مستثمراً حقيقياً سيغامر بالعمل فى ظل قانون مطعون فى دستوريته، إلى أن يُحكم بذلك (وهو أمر قد يطول إلى ثلاث سنوات).
2 – لم يجرؤ أحد حتى ممن هللوا لهذا القانون على القول بصحة العقود التى حُكم ببطلانها وإنما يطالبوننا بالطرمخة على الفساد خوفاً من تحكيم سنخسره حتماً (لماذا؟!) أو لتدليل مستثمر يتشرط علينا ولا ضمان لمجيئه.
3 – فى الوقت الذى تُنصبُ فيه المشانق وتُوجه سهام اللوم للمواطنين الذين رفعوا الدعاوى التى كشفت فساد العقود، وللقضاة الأجلّاء الذين حكموا بذلك، فإن أحداً لم يُحاسب الذين صاغوا هذه العقود المجحفة وأنفذوا هذه البيوعات الفاسدة التى أهدرت أموال المصريين.. بل وصلت المهزلة إلى حد أن الذين باعوا ظلوا فى مواقعهم وكانوا يطعنون باسم الدولة على أحكام رد الشركات (لأنها تدينهم).
4 – إن هذا القانون صدر ليسقط وسيسقط حتماً لأنه ضد الفطرة وضد النزاهة وضد مصر.. التاريخ يقول لنا هذا.. وهل نجحت الترقيعات الدستورية الأربعة والثلاثون وعلى رأسها المادة 76 فى توريث الحكم لجمال مبارك؟ لقد سقط نظام مبارك وابنه وسقط الدستور نفسه.
5 – لا يتصور أحد أن مثل هذا القانون ولا ألف قانون غيره سيحمى صفقةً فاسدة أو سيفتُّ فى عضدنا.. الفساد تُسقطه روائحه قبل أحكام القضاء.. سنقاوم كما قاومنا من قبل.. المؤسف أننا كنا فى غنىً عن كل هذه المعارك الجديدة القديمة لنتفرغ للبناء.
6 – إن المستثمرين الجادين يتدفقون على الدول المستقرة ديمقراطياً، تلك التى يُصان فيها استقلال القضاء وتُحترم أحكامه.. أما الدول المستقرة استبدادياً ولا يُصان فيها استقلال القضاء فيرتعُ فيها المستثمرون الفاسدون الذين لا يفيدون الدولة بشىء بل إنهم يُفسدون على المستثمرين الجادين مناخ العمل.. إن مصر مليئة بالمستثمرين الجادين من المصريين والعرب الذين ينشرون الخير ولا يمّنون علينا.. بل إن بعضهم تحمّل ولا يزالون بعض المضايقات السياسية ولم يغادرونا أو يتشرطوا علينا أو يتطاولوا على قضائنا.. علينا أن نؤمن أمثال هؤلاء من أخطار التأميم والمصادرة إلا بحكم قضائى وعلينا أن نُحسّن لهم مناخ الاستثمار.. أما الفاسدون المتعجرفون فلا أهلاً بهم ولا سهلاً ولا خيرَ يُرجى منهم.
7 – قالت العربُ إن الحرة لا تأكل بثديها.. ومصر قد اعتادت أن تتضور جوعاً ولا تُفرّط فى استقلالها ولا استقلال قضائها.. وتحفظ الجميل لمن يشاركونها محنتها المؤقتة ولا يتشرطون عليها.
يحيى حسين عبدالهادى
قانون تقييد الطعن على العقود مُهين شكلاً وفاجر مضموناً
الثلاثاء، 06 مايو 2014 01:36 ص
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة