كان لابد أن أبدأ مقالى بهذا العنوان، حتى أتجنب السهام المتربصة التى تتهم كل مطلب لا يوافق هواها ومصالحها بأنه مطلب إخوانى، وبالتالى تهدمه فى نفوس الناس وتشكك فى دواعيه بما يقطع عليه الطريق نحو مخاطبة وعيهم المسكون بالتشويش المتعمد ليل نهار.
قامت ثورتان أو هبتان أو انتفاضتان سمهما ما شئت، فليست العبرة بالأسماء على أية حال، ثار الناس على واقع دولة مريضة تراجعت قدراتها ومؤسساتها على نحو مخز، بما أشعل فتيل الغضب فى نفوس المصريين، وبدا أن هناك رغبة حقيقية لدى قطاعات واسعة من الشعب المصرى فى التغيير والانطلاق بهذه الدولة نحو المستقبل، والخروج بها من هذا الثقب الأسود الذى سقطت فيه لعقود، ولأن التشخيص الصحيح هو المدخل المناسب للعلاج، فتشخيص أحوالنا يقول: إن الدولة ومؤسساتها تحولت من خادم للناس فى إطار أدوار كان يجب أن تنهض بها، إلى مؤسسات فى خدمة فرد الحاكم ثم بعض أبناء هذه المؤسسات، ممن وظفوها لتكون آلة لإشباع رغباتهم وأهدافهم على حساب الدور الأصلى لها، ولأننا يجب ألا نكذب أو نتجمل، فيجب أن نؤكد بمزيد من الاطمئنان، أن الفساد الذى طال مؤسسات الدولة الأربع أوسلطاتها الأربع، وإن كان وسمها بأنها سلطة وعبر عقود لم يكن حقيقيا أو منطبقا على كل المؤسسات، هذا الفساد لم يستثن مؤسسة فى مصر.
المؤسسة التشريعية لم تكن أبدا عبر عقود حتى بعد ثورة 25 يناير ترجمة لتطلعات الشعب أو إرادته، بل جسدت فقط تطلعات تحالف السلطة ورأس المال والشبكات التى نشأت لرعاية هذا الزواج وضمان استمراره، كان المال هو جواز المرور للبرلمان أو التنظيم السياسى الكبير الذى احتكره الإسلاميون إخوانا وسلفيين، أو أعضاء حزب الدولة الذى سمى فى مرحلة الوطنى، وربما يسمى فى مرحلة باسم آخر، لكنه يبقى حزب الدولة ومؤسساتها الفاسدة، هذا البرلمان لم يكن أبدا مؤسسة الشعب الذى يشرع من التشريعات ما يحقق مصالحه أو تطلعاته، أو حتى يراقب الحكومة ويعزل الوزير أو رئيس الوزراء بآليات رقابية فعالة، آن لنا أن نسعى من الآن لوضع قواعد اختيار واضحة للنائب، تجعل الناخب يختار دون إكراهات سلطان الدين أو قهر الدولة، يستوى ذلك على البرلمان أو المجالس الشعبية المحلية فى القرى والمدن والمحافظات، التى تراقب إدارت الحكم المحلى وتقاوم فسادها الذى نعاين آثاره فى الشوراع والطرق وكل المرافق التى تخلت عن فريضة الصيانة، حتى أصبحت حياتنا مهددة يوميا بعشرات الكوارث، لا بديل عن برلمانات حقيقية تخلو من الفساد أو سوء الاختيار، وهذه هى المعركة الحقيقية فى هذه المرحلة بعد الانتخابات الرئاسية، لا بد أن تمتلك الثورة نصيبا واضحا فى هذا البرلمان يراقب ويحرس أهدافها.
أما السلطة القضائية فهى عمود الدولة ودونها لا دولة، هذه المؤسسة العريقة التى تضم قضاة أجلاء لا ينحازون إلا للحق، ولا ينشدون سوى العدالة، التى حققت لهذا الشعب مكاسب سيذكرها التاريخ كشفا للفساد وحربا على الاستبداد، هى أيضا لم تسلم من بعض الفساد الذى هو النتيجة الطبيعية لفساد مؤسسات التنشئة فى هذا الوطن وأعنى التعليم والثقافة والإعلام، فى الحقيقة ورغم الثوب ناصع البياض لهذه المؤسسة العريقة، فإنها ومن منطلق المصارحة الواجبة تحتاج لإصلاح يجب ألا يتأخر وأول الإصلاح هو فى معايير اختيار من يعمل فى هذا الحقل، وعدم التساهل فى الشروط العادلة لذلك ومنها التقدير العالى عند التخرج، الذى ينبغى ألا يقل عن جيد جدا، أما من حيث الأداء، فيجب أن يكون هناك هيئة قضائية لا سلطان عليها تراجع الأحكام الشاذة، كما تراجع المجامع الفقهية الفتاوى الشاذة، ويكون لها رأى ملزم تجاهها، بحيث لا تنهدم فى النفوس مقالات ترددت طويلا، مثل الحكم عنوان الحقيقة وعدم جواز التعليق على أحكام القضاء، كما يجب أن نضمن فصلا واضحا بين السلطات، بأن ينص على أن القضاة مستقلون عن السلطة التنفيذية، وبالتالى عدم جواز اشتغالهم بمناصب تنفيذية سواء بالندب فى أثناء الخدمة أو التعيين بعد الخروج منها.
أما السلطة التنفيذية وفى القلب منها جهاز الشرطة المدنى، فلا بد أن أذكر أن 25 يناير هو عنوان وتاريخ ثورة، كما أنه عنوان وتاريخ عيد جهاز الشرطة الوطنى الذى ثار لكرامة مصر ضد الاحتلال البريطانى فى عام 1952، نريد استعادة الشرطة فى خدمة الشعب وليس فى خدمة الحاكم وبطانته، نريد فرد الشرطة الذى يطبق القانون دون انتقام أو انتقاء على الجميع فى حرص على احترام الحقوق والحريات، لذلك مع تقديرنا الكامل لتضحيات الشرفاء من أبناء الشرطة، فنحن بحاجة لتأهيل هذا الجهاز ورفع كفاءته، بخطة إصلاح شاملة تعتمد التدريب والتمويل والتأهيل الفنى والقانونى، والتأكيد على دوره فى الحرص على تطبيق القانون فقط دون اشتغاله بدور سياسى يخصم من مهامه ورصيده لدى الشعب، الذى يبقى هو السيد فى هذا البلد.
إن الترهل والفساد الذى أصاب كل مؤسساتنا لا يحتمل التدرج إذا كنا معنيين بالقفز على حد تعبير السيسى، جهاز الدولة بحاجة لجراحة عاجلة لاستئصال ورم الفساد الخبيث، الذى تركناه لعقود ينهش جسد الدولة، وآن لنا أن نجرى هذه الجراحة، أما الإعلام وهو سلطة تشكيل أو تزييف الوعى، فلابد أن يصحح مساره ويضبط بوصلته فى اتجاه الناس والوطن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة