القانون:
اشترط القانون رقم 17 لسنة 2007 فى مادته الرابعة فيمن يُعيّن معاوناً للنيابة العامة وفى سائر الوظائف المقابلة لها بالهيئات القضائية (ومن بينها مندوب مساعد بهيئة قضايا الدولة)، أن يكون حاصلاً على إجازة الحقوق بتقدير جيد على الأقل، وذلك بالنسبة إلى الوظائف التى يتم شغلها بعد العمل بأحكام هذا القانون.
الإعلان:
نُشر بجريدة الأهرام بتاريخ 26 /3 /2014 إعلانٌ من هيئة قضايا الدولة تطلب فيه دفعةً تكميليةً من خريجى كليات الحقوق والشريعة والقانون والشرطة دفعات 2003 وحتى 2009 وذلك للتعيين فى وظيفة قضائية بدرجة مندوب.
أسئلةٌ بريئةٌ تبحث عن إجابات:
1 – لماذا هذه الدفعات بالذات (إحداها انقضى على تخرجها 11 سنة بأكملها وهى دفعة 2003)؟.
2 – أين دفعات ما بعد 2009؟.
3 – لماذا لم يشترط الحصول على تقدير جيد فما فوق (وهو ما يعنى ضمناً جواز قبول الحاصلين على تقدير مقبول، خلافاً لنص القانون)؟.
4 – لماذا اقتصر الإعلان على وظيفة «مندوب» مع أن أدنى الوظائف القضائية بالهيئة هى «مندوب مساعد»؟. هل صحيحٌ ما يقال عن تفسيرٍ مدهشٍ بأن القانون اشترط تقدير جيد على الأقل للالتحاق بوظيفة مندوب مساعد، وهى أدنى الدرجات القضائية، ولكنه لم يشترطها بالنسبة للوظائف الأعلى مثل وظيفة مندوب المُعلَن عنها؟.. هل يجادل أحدٌ فى أن تحريم الله قول «أفٍ» للوالدين يعنى بالمنطق تحريم درجة الإساءة الأعلى وهى الاعتداء عليهما بالضرب، حتى دون نصٍ قرآنى؟. ألا يعنى تحريم تقدير مقبول لوظيفة «مندوب مساعد»، امتداد التحريم للوظيفة الأعلى «مندوب» دون الاحتياج لنصٍ جديد؟.
5 – هل لهذا الإعلان علاقةٌ بإعلانٍ قديمٍ مشابهٍ سبق لهيئة قضايا الدولة أن كررت فيه نفس الفعل منذ أكثر من عشر سنوات، ثم أبطلته المحكمة الإدارية العليا بحكمها بإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 43 لسنة 2003 (2003 مرةً أخرى؟) فيما تضمنه من تعيين الحاصلين على تقدير مقبول فى درجة الليسانس فى وظيفة مندوب مساعد بهيئة قضايا الدولة مع ما يترتب على ذلك من آثار؟.
6 – من هو هذا الفلتة العبقرى خريج 2003، الذى تُصّر الهيئة على اجتذابه للعمل بها، وتُنشر من أجله الإعلانات التى يتقدم لها آلاف الطامحين من الشباب سنة 2003 ثم 2014 أى بفارقٍ زمنىٍ أحد عشر عاماً كانت كافيةً ليبدأ سيادته دراسة الحقوق من جديد، ويُحسّن تقديره إلى جيد، بل وينال الماجستير والدكتوراة ونوبل، فيُريح الهيئة ويُريح أباه ويُريح المحاكم من نظر طعون المتظلمين؟
7 – كم شاباً من الاثنى عشر ألف متقدمٍ لهذا الإعلان، سيعود لنا مُحبَطاً أو ناقماً أو مشروع إرهابى؟
سؤالٌ برئٌ لا علاقة له البتّة بهذا الإعلان:
لماذا تتسابق كثيرٌ من مؤسسات الدولة الآن سباقاً محموماً، لتكديس عاملين جُدد قبل الرئيس القادم، وبمرتباتٍ كبيرةٍ تبتلع ما تسعى الدولة لتوفيره بشتى السبل، مثل اللمبات الموفرة؟. ثم هل هذه المؤسسات فى حاجةٍ فعلية لطلب أعضاء جُدد أم أن لديها تُخمة من العاملين بها؟.
مقدمةٌ لا بد منها:
أحببتُ أبى عليه رحمة الله حباً كبيراً، وكان قاضياً شريفاً.. وقد استقر فى روع جيلنا منذ الطفولة، أنهما صفتان متلازمتان، أى أن كل قاضٍ لا بد أن يكون شريفاً.
أحببت فيه الأب، وأحببت فيه القاضى.. وامتزج الحُبّان شيئاً فشيئاً فى وجدانى حتى صارا شيئاً واحداً.. فصرتُ أُبصر فى كل قاضٍ وجهَ أبى.. وازداد إكبارى وحُبى لقضاتنا الأجَلاء وهم يقاتلون كالليوث فى جبهتين: جبهة الدفاع عن نزاهة القضاء فى وجه قلةٍ من زملائهم الذين تغلبهم عواطف الأُبوة، وجبهة الدفاع عن استقلال القضاء فى وجه النُظُم المستبدة.. نزاهة القضاء واستقلاله هما الضمانة الحقيقية لكل المقهورين والضعفاء، وهما نقطة البداية المؤكدة لأى نهضةٍ مرجوةٍ لهذا البلد.
تعلمتُ من أبى أن القاضى لا يكون قاضياً، إلا إذا طلب العدلَ لظالميه، وأنصف الغير ولو على حساب نفسه.. وأن ميزان العدل إذا اختّل فى يد القاضى، يفقد القاضى صلاحيته دون أن يُحال إلى مجلس التأديب.. وأن القاضى يكتسب حصانته من عدله، قبل أن يكتسبها من الدساتير والقوانين.
معركة الربع قرن الأخير بين القاضى والأب:
فى الوقت الذى كنّا نقاوم فيه توريث الوظيفة الأولى بالدولة لابن رئيس الجمهورية، كانت مؤسسات الدولة كلها تقريباً، قد رضخت لنزوة التوريث لأبناء العاملين بها، بحيث أصبحنا الآن أمام مؤسساتٍ مهترئة وضعيفةٍ، لم تتشكل بمعيار الكفاءة، وإنما بمعيار «الأقربون أوْلى».. وهو معيارٌ باطر قانوناً فضلاً عن كونه حراماً شرعاً.. ينزع البركة من المُورِثين والمُورَثين ويصيب أصحاب الحق من الأكفاء بمشاعر الإحباط والنقمة.. ويحرم الدولة من الحصول على أكفأ العناصر من المصريين.
والحق أن المؤسسة الوحيدة تقريباً التى قاومت نزوة التوريث داخلها هى مؤسسة القضاء، عبْر معركةٍ مُشرّفةٍ، دارت رحاها على مدى الربع قرن الأخير على مستويين.. المستوى الأول داخل كل قاضٍ بين مشاعر الأب المُحب لابنه فى ظل أزمة البطالة، وضمير القاضى الذى يرفض التمييز.. وقد انتصر القاضى على الأب فى معظم الحالات على هذا المستوى.. أما المستوى الثانى فقد كانت المعركة بين القضاة القضاة، والقضاة الآباء، وكان النصر حليف الفريق الأول حتى الآن.. وهى معركةٌ لم نشهد مثيلا لها فى باقى مؤسسات الدولة التى استكانت لشهوة التوريث.
الأغلبية النزيهة من القضاة أنفسهم، كانوا هم الذين قاتلوا لكى لا يتسرب إلى منصة القضاء من ليس أهلاً لها، ولو كان ابن زميل.. وكان النصر حليفاً لهم (ولمصر) حتى الآن.. وإليكم بعض الشواهد:
1 - تكللت جهود القضاة الأجلاء بإصدار القانون رقم 17 لسنة 2007 المشار إليه فى بداية المقال.. وقد صدر هذا القانون معدلاً لقوانين الهيئات القضائية جميعها، والتى كانت تسمح للحاصلين على تقدير عام مقبول بالالتحاق بأدنى الوظائف فى الهيئات القضائية. وقد صدر بإرادةٍ من القضاة الأجلاّء أنفسهم، لتطهير ثوب العدالة من بعض ما علق به من شبهة مجاملةٍ فى تعيين غير ذوى الكفاءة.
2 - قضت المحكمة الإدارية العليا للرئاسة بمجلس الدولة منذ أسبوع ببطلان تعيين أبناء العاملين بوزارة العدل، وإلغاء قرارات تعيينهم، وإلزام وزارة العدل بضرورة اتبّاع الإجراءات القانونية للتعيين، عن طريق إتاحة الفرصة لجميع المواطنين للتقدم للوظيفة العامة من خلال الإعلانات الرسمية عنها. وكان أحد وزراء العدل السابقين قد خصّص 30% من الدرجات الوظيفية المتاحة داخل وزارته لأبناء العاملين، مبرراً ذلك بأن أبناء العاملين عندما يتم تعيينهم سيعولون آباءهم بما يُعد تكريماً للآباء الذين أفنوا 30 عاماً بأروقة الوزارة (!). أى أن القضاء نفسه هو الذى أصلح هذا الاعوجاج.
3 – نُشر فى الصحف منذ شهر أن مجلس القضاء الأعلى قد رفض بالإجماع طلباً تقدم به مجموعةٌ من المستشارين والقضاة، طالبوا فيه بفتح مسابقةٍ لتعيينات مساعدى النيابة العامة تقدير جيد ومقبول على غرار ما أقدمت عليه هيئة قضايا الدولة.
4 – والأجمل أن أحد أعضاء هيئة قضايا الدولة نفسها ( وهى هيئةٌ موقرةٌ مليئةٌ بالنابهين المخلصين ممن يخافون الله )، وهو المستشار الجليل/ خالد نجاح محمد عبدالنبى، أحد نواب رئيس الهيئة، قد انتفض معبراً عن غضبته للحق، وتقدم بالطعن رقم 48859 لسنة 68 ق أمام مجلس الدولة ضد كلٍ من السادة رئيس الجمهورية ووزير العدل ورئيس هيئة قضايا الدولة بصفاتهم، يطلب إلغاء قرار الإعلان المشار إليه فى بداية المقال.
وقال فى الدعوى (حيث إن القرار الصادر بفتح باب التقديم للمسابقة المذكورة، قد خلا من شرط الحصول على تقدير جيد على الأقل، إنفاذاً لنص المادة الرابعة من القانون رقم 17 لسنة 2007 ، فإنه يكون قد صدر مشوباً بعيب مخالفة القانون بمعنييه الضيق والواسع، إذ هو أيضاً يخالف المبادئ الدستورية المستقرة فى دساتير العالم، بل وفى الضمير الجمعى للأمم قاطبة- وبما يؤكد قصد محاباة أبناء المستشارين من جميع الجهات والهيئات القضائية، الحاصلين على تقدير مقبول، بتمكينهم من ولوج الوظائف القضائية، رغم تدنى مستواهم العلمى، وهى محاباةٌ تضعنا أمام أجلى صور الانحراف بالسلطة). هكذا قال فى دعواه.
القاتل الحقيقى:
ما سبق وغيره، يثبت أن قضاة مصر الحقيقيين، كانوا ولا يزالون حائط الصد، وسدّنا العالى فى وجه محاولات البعض للالتفاف على القانون، وتسريب غير ذوى الكفاءة من أبنائهم إلى منصات القضاء الشامخة.. ولا أدرى لماذا يصر البعض على تلويث هذا الثوب الناصع لقضاة مصر بالتحايل على القواعد والقوانين، واستفزاز الشعب المصرى ؟ ولماذا يتم إشغالنا باستدعاء نفس المعارك القديمة التى ظننا أننا تجاوزناها إلى ما هو أهم وأنفع؟.. أعرف ضعف الإنسان أمام مشاعر الأبوّة.. ولكن القاضى ليس كأى إنسان.. القاضى يقبض على ميزان العدل كالقابض على الجمر.. فإذا اهتز هذا الميزان فى يده يفقد صلاحيته كقاضٍ وكإنسان.
إن الأب (قاضياً كان أو غير ذلك) الذى يطلب لابنه ما ليس حقه، ينزع هذا الحق فى نفس اللحظة من مستحقٍ بائسٍ مظلومٍ فى مكانٍ ما.
فى الأسبوع الماضى وقع حادثٌ جلل، أخشى أن يُحاسبنا الله جميعاً عليه.. أمٌ قتلت ابنها الذى طلب رغيفاً (حاف) إضافياً، لكى يسد جوعه.. قتلته بطعنةٍ فى قلبه، دون أن تدرى أو تقصد.. واقرأوا أقوالها باكيةً (كان معايا جنيه اشتريت بيه العيش من الفرن.. وزّعت العيش الحاف على العيال، وما كانش فيه تانى.. وهو يا حبة عين أمه كان جعان.. وأنا كنت خايفة إخواته الصغيرين يطلبوا زيه.. حاجيب منين يا عالم، وأنا وفرت الكام رغيف دول بالعافية.. أنا كنت مغلولة من ضعفى وعجزى عن سد جوعه.. مش عارفة عملت كده إزاى.. سامحنى يابنى.. هو فيه حد يقتل ضناه؟).
أُشارك القيادى الوفدى وفيق الغيطانى فى طلب العفو عن هذه الأم، ولكننى أوّجه الاتهام إلى قاتل ابنها الحقيقى.. فوالله ما جاع ومات (حبة عين أمه) إلا بسبب أمثال حبة عين أبيه خريج 2003، الذى تُفصّل من أجله الإعلانات وتُهدر الأموال العامة، وتُخلى له وظيفةٌ لا يستحقها لكى يغرف من مزاياها (وأموالنا)، ثم يورثها إلى حبة عين جده.. والله ما زاد العَوز فى مصر إلا بأمثال هؤلاء الذين يستحلون السطو على حقوق غيرهم.. والله ما وُجد مظلومٌ إلا بظلم ظالم.. وما افتقر فقيرٌ إلا بفُحش وطمع غنِّى.. ألا لعنة الله على الظالمين والفاسدين.. عفوك يا رب.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة