يحيى حسين عبدالهادى

فعلاً .. وما ذنْب الفاسدين؟

الثلاثاء، 13 مايو 2014 07:08 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بعد أن فنّدنا كافة الحُجج التى ساقها مصدرو ومبررو قانون تقييد حق الطعن فى العقود الإدارية (المعروف بقانون ادخلوها فاسدين) تتبقى حُجةٌ يسوقونها إذا أعيتهم الحُجج.

وما ذنب المستثمر الذى جاء وتعاقد مع دولةٍ محترمة وأدّى ما عليه ثم يُفاجاُ بعد سنواتٍ بإلغاء التعاقد؟. وهو تساؤلٌ وجيهٌ فعلاً ويستند إلى منطق.. هذا إذا كنا نتحدث عن تعاقدٍ بين دولةٍ محترمةٍ ومستثمرٍ حقيقى.. ولكن مفردات السؤال تحتاج إلى مراجعةٍ وتدقيق.. فهل الطرف الذى باع أصولاً إنتاجية (دون توكيلٍ بالبيع) بأسعار وصلت فى بعض الأحيان إلى أقل من 10% من القيمة السوقية للأرض فقط، يمكن أن نسميه دولة محترمةً؟.وهل الطرف الذى اشترى بهذا الثمن البخس وهو يعلم معارضةَ الشعب مالك الأصول لعملية البيع، ولم يكتفِ بذلك وإنما أخلّ بالعقد الباطل نفسه وشرّد عمالاً ودمّر صناعةً، هل يمكن أن نسمى ذلك الطرف مستثمراً؟.

لم يكن ما تم خلال سنوات الخصخصة عقودًا بين دولة ومستثمرٍ وإنما اتفاقاتٍ بين لصٍ وتاجر مسروقات.

أولاً: لكى لا ننسى:
1 – لا بد من التذكير بأننا حذّرنا مبكراً فى حركة "لا لبيع مصر" من أننا لم نفوّض أمانة السياسات ببيع ممتلكاتنا ولم ننتخبهم عبر انتخاباتٍ نزيهةٍ ولم يستأذنوننا فى بيع ممتلكاتنا، لا باستفتاءٍ حقيقى ولا مزوّر، وكم قلنا إننا لا نعترف شعبياً بمشروعية أى عمليات بيعٍ للأصول العامة إلى أن يزول هذا النظام ويصبح القرار بيد الشعب.. وحذّرنا كل من يتقدم لشراء شركة عامة فى ظل هذا النظام الفاسد وغير الشرعى وغير المفوض، من أننا سنعتبره مشاركاً فى الجريمة شأنه فى ذلك شأن التاجر الذى يشترى المسروقات مستغلاً هذه اللحظة الكارثية التى كانت تمر بها مصر للسطو على ممتلكاتنا.. وقلنا إننا لن نَدَع لصاً يفوز بمسروقاته عندما يسقط هذا النظام الذى كنا واثقين من حتمية سقوطه.

2 – ولكن بعد سقوط نظام مبارك بحوالى أسبوعٍ واحدٍ فقط، وكنا قد أصبحنا فى الجانب المنتصر، وكانت أصواتٌ كثيرةٌ قد ارتفعت تطالب بتأميم كل الشركات التى تم بيعها بواسطة النظام الساقط، وأن ذلك ليس بدعةً وإنما هو من المتعارف عليه فى سُنن الثورات الشعبية.. وقتها اعترضتُ ومعى كثيرون على هذا الاتجاه، وقلتُ فى برنامجٍ تليفزيونى (إن النُظم تتغير ولكن الدولة واحدةٌ، ونحن مع مبدأ أن تحترم الدولة المصرية تعاقداتها ما لم يثبت فساد هذه التعاقدات بأحكامٍ قضائية، فنحن نطلب العدل حتى لظالمينا وسارقينا)، وقلتُ (إن هناك صفقاتٍ فاحت روائحها وكان الكثير من المواطنين شهوداً بدرجةٍ أو بأخرى على فسادها ولكن الخوف منعهم من التقدم للإدلاء بالشهادة.. أما الآن وقد سقط النظام القمعى فلا عُذر لأحدٍ وعليهم أن يتقدموا إلى القضاء فهو سبيلنا الوحيد لا سترداد الحقوق، فإن حَكَم بفساد الصفقة فإن دولة الثورة ستنفذه، وإن حَكَم بغير ذلك يجب علينا أن نقبله راضين، فنحن فى جميع الأحوال لن نحمل سلاحاً لاسترداد هذه الشركات، حتى فى الحالات التى نعترض فيها على مبدأ البيع فى حد ذاته).

3 – قلتُ رأيى هذا رغم أن الدولة المصرية ذاتها لها سابقاتٌ فى التدخل لفسخ تعاقداتٍ وبيوعاتٍ عندما اكتشفت فسادها أو إضرارها بالأمن القومى أو الحضارى ولم يتهمها أحدٌ وقتها بأنها آتت منكراً من الفعل وأنها فقدت هيبتها (على سبيل المثال: سحب الأرض التى باعتها الدولة لسياج/ إلغاء بيع هضبة الأهرام/ إلغاء إسناد عملية مطار رأس سدر).

ثانياً: هل كنا ساذجين؟ :
يبدو أن التزامنا بطريق التقاضى المدنى لا الثورى، بثّ الطمأنينة فى قلوب تحالف مصاصى دماء المال العام فى جحورهم التى لجأوا إليها رعباً عقب ثورة يناير.. ثم بدأت الفئران تخرج من جحورها واقتاتت وترعرعت على ضعف وتراخى حكومات ما بعد الثورة.. فلم تكتفِ بأن أحدصا ممن تورطوا فى هذه الجرائم الكبرى لم يُحاسَب وإنما سمحت بصدور قرارٍ بقانون من رئيس الجمهورية المؤقت يُعتبر بمثابة عفوٍ شاملٍ عن كل من أجرموا فى صفقات الخصخصة مع أننا نعلم أنه لا عفو إلا بعد عقوبة.

لا أحد حوسب بالمرة على جرائم الخصخصة التى لم تدمر فقط قاعدةً صناعيةً كبيرةً يصعب تعويضها، ولم تحوّل فقط إلى طابور البطالة مئات الألوف من العمال المهرة الذين دُمرّت نفوسُهم وأُهينت كرامتهم وشُردّت أُسرهم، وإنما باعت ما باعت بأقل من قيمته (وقتها) بمائتى مليار جنيه على أقل تقدير.
\
والله العظيم لم يُحاسَب أحد. . والله العظيم لم يُحاسَب أحد. . والله العظيم لم يُحاسَب أحد. . لم يكتفوا بأنهم لم يُحاسَبوا وإنما انقلبوا ليحاسبونا ويحاسبوا القضاء الذى تجرّأ وكشف فساد عقودهم فأصدروا هذا القانون، الذى يمنع القضاء من الاستمرار فى نظر دعاوى منظورة أمامه بالفعل ويلغى أحكامًا واجبة التنفيذ صدرت بالفعل ولم تنظرها المحكمة الإدارية العليا.

بعد.. ما الفارق بين حصار المحكمة الدستورية بجيوش الظلام وحصار مجلس الدولة بهذا القانون المعيب لمنعهما من إصدار أحكام ليست على هوى المحاصِرين؟ لا فرق.

ثالثاً: خارطة الطريق المقترحة للتعامل مع صفقات الخصخصة:
1- لنتفق جميعًا من حيث المبدأ على أن أى تعامل مع ما فات من صفقات الخصخصة لا يمكن أن يتم من خلال العبث باستقلال القضاء أو إلغاء الأحكام القضائية أو التعدى على حقوق المواطنين التى كفلها الدستور أو التسامح مع فساد ومن ثم فإن هذا القانون الفاسد لا بد أن يسقط. . وسيسقط بإذن الله.

2 – بالنسبة للحالات التى حَكم قضاء مجلس الدولة بصحة عقودها فلا مشكلة وأحكام القضاء واجبة الاحترام.

3 – بالنسبة للحالات التى حكم القضاء الجليل ببطلان عقودها وهى ست حالات (أو التى قد يحكم ببطلانها مستقبلاً) فإن الخطوة الأولى الواجبة هى تنفيذ حكم القضاء ولا تفاوض أو تنازل عن هذا وإلا فهى المسخرة.

4 – بناءً على حكم قضاء مجلس الدولة بفساد العقد (وهو المختص الوحيد بذلك) يقوم بالتقدم بحيثيات الحكم كبلاغٍ قضائى إلى السيد النائب العام للتحقيق فى الشق الجنائى الذى بدت ملامحه أثناء نظر الدعوى (وهو ما فعله القضاء الإدارى فعلاً فى جميع الحالات التى حكم بفساد عقودها حتى الآن).
5 – إذا ثبت من تحقيقات النيابة العامة أن هناك وقائع فساد جنائىية من أحد طرفى التعاقد أو كليهما يتم المحاسبة والتغريم لصالح الدولة ويمتنع بالتبعية حق اللجوء للتحكيم (معظم هذه التعاقدات لا نص فيها على حق اللجوء للتحكيم الدولى أصلاً ).

6 – إذا لم يثبت وجود فساد جنائى فى حق المشترى وكانت الصفقة محل النزاع من تلك التى لا تريد الدولة الاحتفاظ بها ويرغب المشترى فى استردادها بعد الحكم ببطلان العقد، يمكن التفاوض معه من أجل إبرام عقدٍ جديدٍ خالٍ من إجحاف وعوار العقد الأصلى، والأرجح أنه سيقبل التنازل عن جزءٍ من مكسبه الخرافى فى العقد الباطل حتى لا يضيع المكسب كله (شئٌ قريبٌ مما حدث بعد الحكم الأول ببطلان عقد مدينتى عندما نفذت الدولة الحكم ثم صاغت عقداً جديداً تنازل فيه هشام طلعت مصطفى عن جزءٍ مما أتاحه له العقد الأول ).

7 – بالنسبة للدعاوى التى لا زالت منظورةً أمام قضاء مجلس الدولة تسرى عليها الخطوات السابقة.

8 – بالنسبة لباقى الصفقات التى تمت ولم تُنظر بعد فقد يكون من الملائم أن يأخذ مجلس الدولة الموقر بزمام المبادرة ويفحص عقودها جميعاً ويقوم كيانٌ متخصصٌ فى الجهاز التنفيذى للدولة بالتفاوض مع المشترين لتصويب العقود على أن تنتهى تلك المهمة فى فترةٍ زمنيةٍ محددةٍ لا تتجاوز العام.

رابعاً وماذا عن المستثمرين الحقيقيين؟:
هذا هو السؤال الأهم الذى علينا أن نحاول جميعاً الإجابة عليه، ليس بمنطق إفحام السائل وإنما من باب الحرص فعلاً على زيادة وتدفق الاستثمارات المصرية والأجنبية لتحقيق معدلات نموٍ معقولة فى ظل ما نعرفه جميعاً من تناقص معدلات الادخار، وفى ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التى كان من أبرز أسبابها صفقات الخصخصة الفاسدة التى سهّلت الاستيلاء على المال العام ودمرّت جزءاً كبيراً من البنية الصناعية المنتجة وحوّلتها إلى أراضٍ وعقاراتٍ ومنتجعات فى عصر مبارك. نحن فعلاً بحاجةٍ لجذب والترحيب بكل مستثمرٍ يُنشئ بأمواله كياناً جديداً، يستقطب للعمل به جموعاً من العاطلين، ويُنتج سلعاً جديدةً تغنينا عن استيرادها. . علينا أن نجتهد فى تأمينهم وتطمينهم دون أن نُفرّط فى استقلالنا وقضائنا.

لكن قبل أن نجذب مستثمرين جُدُد لا بد أن نشجع وندعم ونُطمئن (ولو معنوياً) أولئك المستثمرين الجادين من المصريين والعرب الذين ينشرون الخير بمصر منذ سنواتٍ وتحملوا معنا تلك السنوات العصيبة، ولم يغادرونا وقت المحنة ولم يمنّوا علينا أو يتشرطوا للبقاء أو يتطاولوا على قضائنا. بل إن بعضهم تحمّل ولا يزالون بعض المضايقات والرذالات السياسية. علينا أن نؤمّن أمثال هؤلاء من أخطار التأميم والمصادرة إلا بحكم قضائى، وعلينا أن نُحسّن لهم مناخ الاستثمار وأن نغفر لهم اللَمَم.. وإذا اختلفنا مع بعضهم سياسياً أو فكرياً فيجب ألا نختلف على معنى وقيمة استمرار استثماراتهم فى حضن مصر فى ظل هذه الأعوام المضطربة.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة